ذهبي
- 06:41pm Aug 6, 1999 توقيت_مكة_المكرمة
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله ، ثم
أما بعد :-
إن مما يحزن القلب و
يدمع العين أن تجد ممن ينتسبون
إلى الإسلام و يدعون أنهم إخوة
لنا في العقيدة أن يقوم و
يتهجم على أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم ، نعم قد
تتساءلون و تقولون من هو ؟
أقول : فتحت في يوم من الأيام
الساحة السياسية ، و عادتي أني
لا أحب دخول ذلك المكان الذي
أصبح فقط منبراً للسب و
الشتائم والقذف الصريح والخفي
، حتى أنك تصاب بالغثيان لما
تقرأ ، و إذ بي أجد أحد الذين
يكتبون هناك و يتزعمون الردود
على الأخوة في ظنه أنه ينصر
الدين وأهله ، ألا وهو : (
تورنيدو ) ولا أعلم ما معنى أن
يتسمى بهذا الاسم ؟ و هل خلت
الدنيا من الأسماء ؟ وإذ بي
أجد له مقالاً في حوار مع أحد
الأخوة ، و كان في ذلك الحوار
طعن واستهزاء و تهكم بالصحابي
الجليل معاوية بن أبي سفيان
رضي الله عنه وأرضاه . و قد
رددت عليه في تلك الساحة ،
وأحببت أن أعيد نشر الرد هنا
مع تغيير طفيف لا يؤثر ، لتعم
الفائدة في معرفة حكم سب
الصحابة رضوان الله عليهم
أجمعين . حقاً إنها لفتنة ، و
أي فتنة !!
ألا تعلم يا تورنيدو
أنك قد تجرأت على أحد أكابر
الصحابة ، و خال المؤمنين ، و
كاتب وحي النبي الأمين صلى
الله علية وعلى آله وسلم
أجمعين ، ألا تعلم أنه كان
خليفة للمسلمين ، لكن : من ذا
يساوي بن يتغريد البلابل
والنعيق .
ألا تعلم بحكم من سب
أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم ؟ وما جزاءه في الدنيا
قبل الآخرة ؟ فإن كنت لا تعلم
فتلك مصيبة وإن كنت تعلم
فالمصيبة أعظم . اسمع إلى هذه
الأدلة من الكتاب والسنة
وآثار سلف هذه الأمة على تحريم
سب أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم ، ثم لتتوب مما اجترحت في
حق هذا الصحابي الجليل .
تحريم سبهم بنص
الكتاب العزيز :-
1 – قوله تعالى {
والسابقون الأولون من
المهاجرين والأنصار الذين
اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم
و رضوا عنه }[التوبة/100] . وجه
الدلالة : أن الله تعالى رضي
عنهم مطلقاً ، ومن رضي الله
عنه لم يسخط عليه أبداً .
2 – قوله تعالى { إن
الذين يؤذون الله و رسوله
لعنهم الله في الدنيا والآخرة
و أعد لهم عذاباً مهينا } [الأحزاب/57]
. وجه الدلالة : أن العذاب نازل
على من آذاه – جل وعلا –
بمخالفة أوامره ، و إيذاء
رسوله يشتمل كل أذية قولية أو
فعلية ، و مما يؤذيه صلى الله
عليه وسلم سب أصحابه ، وقد
أخبر صلى الله عليه وسلم أن
إيذاءهم إيذاء له ، و من آذاه
فقد آذى الله .
3 - قوله تعالى {
والذين يؤذون المؤمنين
والمؤمنات بغير ما اكتسبوا
فقد احتملوا بهتاناً وإثماً
مبينا } [ الأحزاب/58] . وجه
الدلالة : أن الآية فيها
التحذير من سب و إيذاء
المؤمنين عموماً ، و ذلك بما
ينسب إليهم مما هم منه براء ، و
وجه الدلالة على تحريم سب
الصحابة أنهم في صدارة
المؤمنين فإنهم المواجهون
بالخطاب في كل آية مفتتحة
بقوله { يا أيها الذين آمنوا } .
إلى غيرها من الآيات
الكثيرة .
دلالة السنة على
تحريم سب الصحابة :-
1- ما رواه الشيخان
في صحيحيهما من حديث أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال : لا
تسبوا أصحابي ، فو الذي نفسي
بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد
ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا
نصيفه .
2 – و حديث عائشة رضي
الله عنها كما عند الطبراني :
لا تسبوا أصحابي ، لعن الله من
سب أصحابي . و هو صحيح .
3 – و حديث : من سب
أصحابي فعليه لعنة الله و
الملائكة والناس أجمعين . و هو
صحيح .
إلى غيرها من
الأحاديث الكثيرة التي تحرم
سب أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم ، و تتوعد مرتكبه باللعن
والطرد من رحمة الله .
من كلام السلف في
تحريم سب الصحابة :-
1 – ذكر ابن الأثير
عن رزين من حديث جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما قال : قيل
لعائشة : إن ناساً يتناولون
أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم حتى أبا بكر و عمر ، فقالت
: و ما تعجبون من هذا ؟ انقطع
عنهم العمل فأحب الله أن لا
ينقطع عنهم الأجر . وسنده صحيح
.
2 - روى ابن بطة
بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي
الله عنه قال : لا تسبوا أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم
،فلمقام أحدهم ساعة – يعني مع
النبي صلى الله عليه وسلم –
خير من عمل أحدكم أربعين سنة .
3 - روى محمد بن عبد
الواحد المقدسي رحمه الله
بإسناده إلى سعيد بن
عبدالرحمن بن أبزى ، قال : قلت
لأبي : ما تقول في رجل سب أبا
بكر ؟قال يقتل ، قلت : سب عمر ؟
قال : يقتل .
4 – و روى أيضاً
بإسناده إلى عبد الله بن الحسن
بن علي ، أنه قال : ما أرى رجلاً
يسب أبا بكر و عمر تيسر له توبة
أبداً .
5 - و قال عبد الرحمن
الأوزاعي : من شتم أبا بكر
الصديق رضي الله عنه فقد ارتد
عن دينه وأباح دمه .
إلى غيرها من الآثار
الكثيرة .
حكم ساب الصحابة و
عقوبته :-
1 – ذهب جمع من أهل
العلم إلى القول بتكفير من سب
الصحابة رضي الله عنهم أو
تنقصهم و طعن في عدالتهم و صرح
ببغضهم و أن من كانت هذه صفته
فقد أباح دم نفسه و حل قتله ،
إلا أن يتوب من ذلك و ترحم
عليهم . و ممن ذهب إلى ذلك :
الصحابي الجليل عبدالرحمن بن
أزى و عبدالرحمن بن عمرو
الأوزاعي و أبو بكر بن عياش ، و
سفيان بن عيينة ، و محمد بن
يوسف الفريابي و بشربن الحارث
المروزي و غير كثير .
فهؤلاء الأئمة
صرحوا بكفر من سب الصحابة
وبعضهم صرح مع ذلك أنه يعاقب
بالقتل ، و إلى هذا القول ذهب
بعض العلماء من الحنفية
والمالكية والشافعية
والحنابلة والظاهرية .
2 - و ذهب فريق آخر من
أهل العلم إلى أن ساب الصحابة
لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل
ولا يعاقب بالقتل ، بل يكتفي
بتأديبه وتعزيره تعزيراً
شديداً يروعه و يزجره حتى يرجع
عن ارتكاب هذا الجرم الذي
يعتبر من كبائر الذنوب
والفواحش المحرمات ، وإن لم
يرجع تُكرر عليه العقوبة حتى
يظهر التوبة .
و ممن ذهب إلى هذا
القول : عمر بن عبدالعزيز و
عاصم الأحول و الإمام مالك و
الإمام أحمد و كثير من العلماء
مما جاء بعدهم .
و بعد هذا الذي سمعت
يا تورنيدو أدعوك أن تتوب إلى
الله مما قلت ، و أن تعلنها في
الساحة حتى تكون عبرة لمن لا
يعتبر .
و لمن لا تعرف
معاوية جيداً فأعرفه به : إن
معاوية رضي الله عنه كان من
كتاب الوحي ، و من أفضل
الصحابة و أصدقهم لهجة و
أكثرهم حلماً فكيف يعتقد أن
يقاتل الخليفة الشرعي و يهرق
دماء المسلمين من أجل ملك زائل
، و هو القائل : والله لا أخير
بين أمرين ، بين الله و بين
غيره إلا اخترت الله على سواه .
سير أعلام النبلاء للذهبي (3/151)
.
و روى الترمذي في
فضائل معاوية أنه لما تولى أمر
الناس كانت نفوسهم لا تزال
مشتعلة عليه ، فقالوا كيف
يتولى معاوية و في الناس من هو
خير مثل الحسن و الحسين . قال
عمير و هو أحد الصحابة : لا
تذكروه إلا بخير فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : اللهم اجعله هادياً
مهدياً و اهد به . رواه الإمام
أحمد في المسند (4/216) و صححه
الألباني في صحيح سنن الترمذي
(3/236) . و زاد الآجري في كتاب
الشريعة لفظة : ولا تعذبه .
كتاب الشريعة للآجري (5/2436-2437)
إسناده صحيح .
و أخرج الإمام أحمد
، عن العرباض بن سارية رضي
الله عنه قال : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول :
اللهم علم معاوية الكتاب و قه
العذاب . فضائل الصحابة (2/913)
إسناده حسن .
و أخرج أبو داود و
البخاري في الأدب المفرد من
طريق أبي مجلز قال : خرج معاوية
على ابن الزبير و ابن عامر ،
فقام ابن عامر و جلس ابن
الزبير ، فقال معاوية لابن
عامر : اجلس فإني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول :
من أحب أن يتمثل له الرجال
قياماً فليتبوأ مقعده من
النار . سنن أبي داود (5/398) و
الأدب المفرد (ص339) ، الشريعة
للآجري (5/2464) .
و أخرج ابن كثير في
البداية والنهاية بسند صحيح ،
أن معاوية رضي الله عنه ، كان
إذا لقي الحسن بن علي رضي الله
عنهما قال : مرحباً بابن رسول
الله وأهلاً ، و يأمر له
بثلاثمائة ألف ، و يلقى ابن
الزبير رضي الله عنه فيقول :
مرحباً بابن عمة رسول الله
وابن حواريه ، ويأمر له بمئة
ألف . البداية والنهاية (8/137) .
و أخرج الآجري عن
الزهري قال : لما قتل علي بن
أبي طالب رضي الله عنه و جاء
الحسن بن علي رضي الله عنهما
إلى معاوية ، فقال له معاوية :
لو لم يكن لك فضل على يزيد إلا
أن أمك من قريش و أمه امرأة من
كلب ، لكان لك عليه فضل ، فكيف
و أمك فاطمة بنت رسول صلى الله
عليه وسلم ؟! . أنظر كتاب
الشريعة (5/2469-2470) إسناده حسن .
و الذين لا يعرفون
سيرة معاوية يستغربون إذا قلت
لهم بأنه كان من الزاهدين و
الصفوة الصالحين ، روى الإمام
أحمد بسنده إلى علي بن أبي
حملة عن أبيه قال : رأيت معاوية
على المنبر بدمشق يخطب الناس و
عليه ثوب مرقوع . كتاب الزهد (ص172)
.
و أخرج ابن كثير عن
يونس بن ميسر الزاهد - و هو أحد
شيوخ الإمام الأوزاعي - قال :
رأيت معاوية في سوق دمشق و هو
مردف وراءه وصيفاً و عليه قميص
مرقوع الجيب و يسير في أسواق
دمشق . البداية و النهاية (8/134) .
و قد أوردت هذه
الأمثلة ليعلم الناس أن
الصورة الحقيقية لمعاوية
تخالف الصورة المكذوبة التي
كان أعداؤه و أعداء الإسلام
يصورونه بها ، فمن شاء بعد هذا
أن يسمي معاوية خليفة ، أو
أمير المؤمنين ، فإن سليمان بن
مهران - الأعمش - و هو من الأئمة
الأعلام الحفاظ كان يسمى
بالمصحف لصدقه ، كاد يفضل
معاوية على عمر بن عبد العزيز
حتى في عدله .
و من لم يملأ - أمير
المؤمنين - معاوية عينه ، و
أراد أن يضن عليه بهذا اللقب ،
فإن معاوية مضى إلى الله عز
وجل بعدله و حلمه و جهاده و
صالح عمله ، وكان و هو في
دنيانا لا يبالي أن يلقب
بالخليفة أو الملك . انظر
حاشية محب الدين الخطيب على
العواصم من القواصم (ص217) .
و ذكر ابن العربي في
كتابه العواصم أنه دخل بغداد و
أقام فيها زمن العباسيين و
المعروف أن بين بني العباس و
بني أمية ما لا يخفى على الناس
، فوجد مكتوباً على أبواب
مساجدها خير الناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبو
بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم
معاوية خال المؤمنين رضي الله
عنهم أجمعين . العواصم من
القواصم (ص229-230) .
و قد سئل عبد الله بن
المبارك ، أيهما أفضل : معاوية
بن أبي سفيان ، أم عمر بن عبد
العزيز ؟ فقال : و الله إن
الغبار الذي دخل في أنف معاوية
مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم أفضل من عمر بألف مرة ،
صلى معاوية خلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقال : سمع
الله لمن حمده ، فقال معاوية :
ربنا ولك الحمد . فما بعد هذا ؟
وفيات الأعيان ، لابن خلكان (3 /33)
، و بلفظ قريب منه عند الآجري
في كتابه الشريعة (5/2466) .
و أخرج الآجري بسنده
إلى الجراح الموصلي قال : سمعت
رجلاً يسأل المعافى بن عمران
فقال : يا أبا مسعود ؛ أين عمر
بن عبد العزيز من معاوية بن
أبي سفيان ؟! فرأيته غضب غضباً
شديداً و قال : لا يقاس بأصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم أحد ،
معاوية رضي الله عنه كاتبه و
صاحبه و صهره و أمينه على وحيه
عز وجل . كتاب الشريعة للآجري (
5/2466-2467) شرح السنة لللالكائي ،
برقم (2785) . بسند صحيح .
و كذلك أخرج الآجري
بسنده إلى أبو أسامة ، قيل له :
أيما أفضل معاوية أو عمر بن
عبد العزيز ؟ فقال : أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا
يقاس بهم أحد . كتاب الشريعة (5/2465-2466)
بسند صحيح ، و كذلك أخرج نحوه
الخلال في السنة ، برقم (666) .
فوائد .. قال محب
الدين الخطيب رحمه الله :
سألني مرة أحد شباب المسلمين
ممن يحسن الظن برأيي في الرجال
ما تقول في معاوية ؟ فقلت له : و
من أنا حتى اسأل عن عظيم من
عظماء هذه الأمة ، و صاحب من
خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم ، إنه مصباح من مصابيح
الإسلام ، لكن هذا المصباح سطع
إلى جانب أربع شموس ملأت
الدنيا بأنوارها فغلبت
أنوارها على نوره . حاشية محب
الدين الخطيب على كتاب
العواصم من القواصم ( ص95) .
و قبل أن أختم ، أورد
رأياً طريفاً للمؤرخ العلامة
ابن خلدون في اعتبار معاوية من
الخلفاء الراشدين فقد قال : إن
دولة معاوية و أخباره كان
ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء
الراشدين و أخبارهم ، فهو
تاليهم في الفضل والعدالة
والصحبة . أنظر هذا القول في
العواصم من القواصم ( ص213) .
و ما ضر المسك –
معاوية – عطره ، أن مات من شمه
الزبال والجعل .. رغم أنف من
أبى ..
و جزاكم الله خيراً
..
أخوكم : ذهبي ..