سلسلة الحقائق الغائبة (2) :

التقيـة

الوجه الآخر

فيصل نور

 

الإهداء

شر الأزمنة أن يتبجح الجاهل، وأن يسكت العاقل، ولكن القبة الجوفاء لا ترجع غير الصدى

فإلى القباب غير الجوفاء أهدي كتابي0

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله0

أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار0

قال تعالى: [لَتَجِدَنّ أَشَدَّ اُلنَّاسِ عَدَاوةً لِّلَذينَ آمَنوا الَيهُودَ والذِينَ أَشرَكُوا] - [المائدة/82]، فمنذ أن قدّم الله عزوجل اليهود على الذين أشركوا في عداوتهم للمسلمين، عرفنا أنه لا بد من أن يقف اليهود ومن ورائهم كل قوى الظلام المنضوية تحت راياتهم من مجوس وهندوس وغيرهم من ملل الشرك في صف أعداء الإسلام ليطفئوا نوره، ولم يتوان هؤلاء في إظهار عداوتهم، فقد فعلها طلائعهم في مهد الإسلام فهذا حُيَيّ بن أخطب أحد زعماء اليهود نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقدَّم للقتل، ضمن من قتل من يهود بني قريظة، يقول: أما والله ما لُمتُ نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يُخذل 0 عرفها ابن أخطب وعرفها أذنابه يوم أن انتكست راياتهم تحت سيوف الرعيل الأول من المسلمين وعرفها بعد ذلك المنضوون تحت رايات الشرك يوم أن انكسرت شوكتهم وتوالت هزائمهم في القادسية واليرموك وفتح مصر وشمال أفريقيا وفارس، وغيرها، عرفوا أن هذا النور لن توقفه جحافلهم مهما بلغت ولن تصمد أمامه جيوشهم مهما قويت، فرأوا أن الكيد للإسلام بالحيلة أنجح، فبدءوا مخططاتهم في الخفاء، فكان استشهاد الفاروق عمر، وعثمان ذي النورين، وعلي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين، تلك النجوم الزاهرة قادة الفتح الذين أذلوهم وأزالوهم وحضارتهم بأمجادها الزائلة أصلا بعد أن كانوا سادة الدنيا، ثم عمدوا إلى النيل من هذا الدين لإطفاء نوره، وأنى لهم ذلك والله يقول: [يريِدُونَ لِيُطفِئوا نُورَ اللهِ بَأفواهِهِم وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكافِرُونَ ] – [الصف/7]، فشرعوا في تشكيك المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فكان أيسر السبل إلى ذلك هو النفاق، بضاعتهم التي اشتهروا بها، فأظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، قال تعالى: [وَقَالَت طّاَِئفَة مِن أهلِ الكِتابِ آمِنوا بِالذِي اُنزِلَ عَلى الَّذِينَ آمنُوا وَجه النَّهارِ واكفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَهُم يَرجِعُونَ] - [آل عمران/72]، فكان لهم إلى حد بعيد ما أرادوه، فمازال كيدهم في هذا الاتجاه يؤتي أكله ولكن إلى حين، وإنضوى تحتهم في نهجهم هذا كل الموتورين والحاقدين على هذا الدين فاستمرءوا اللعبة، قال تعالى: [وَإذَا لَقُوا الذِينَ امَنُوا قاَلُوا آمنَّا وإِذَا خَلَوا إلى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إناَّ مَعَكُم إِنمَّا نَحنُ مُستُهزِئُونُ] – [البقرة/14]، فانطلت أحابيلهم في هذا المنوال على بعض ضعاف النفوس الذين لم تشرأب نفوسهم حقيقة هذا الدين فأخرجوا من أخرجوا عن دائرة الإسلام، واجتهدوا في إبقاء من عجزوا عن الكيد له بمنأى عن سائر المسلمين فأصّلوا لهم أصولا وقعّدوا لهم قواعد ووضعوا لهم عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، فميزتهم عن سائر بني جلدتهم، وشذوا بها عنهم، كل ذلك من خلال إظهار الإيمان وإبطان خلافه تارة، وأخرى بتقنعهم بولاءات شتى بإسم الدين كالتشيع لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث وجدت هذه الدعوات صدى عند الكثيرين من الذين صادفت أهواءهم وأغراضهم، فلما وجد أعداء الإسلام أن الكثير من عقائد المسلمين قد تسربت إلى هؤلاء الذين راموا إخراجهم عن دائرة الإسلام، عمدوا إلى صرف كل ما تعارض مع مخططاتهم مما صدر عن الأئمة الذين تشيعوا لهم بإسم الإسلام، بحجة أن ذلك كان منهم تقية مبعثها القهر والظلم والاستبداد الذي حاق بهم من الحكام الذين تولّوا إمرة المؤمنين عبر التاريخ، فكان أن بقيت هذه الطوائف بسبب عقيدة التقية هذه، بعيدة عن إخوانهم في الدين فألتبس عليهم أمر دينهم وأختلط الحق بالباطل في أحكامهم فضاعت معالمها، وترسخ هذا الضياع بمرور الزمن في نفوسهم لتقاعس علمائها، فغدت ملاذاً آمناً لطلاب الدنيا الذين جعلوا هذه الرخصة هي جُل الدين لتيّسر لهم الأرضية التي تضمن بقائهم، ومعها مصالحهم من حطام الدنيا الزائلة0

ونحن إن شاء الله في هذا الكتاب سنتناول مسألة التقية عند المسلمين عامة وعند الشيعة خاصة باعتبارها من ضروريات مذهبهم، ونبين حقيقتها، وذلك في بابين، الأول تعريف التقية ومشروعيتها من الكتاب والسنة وأقوال علماء المسلمين من شيعة وسنة فيها، ثم بيان حقيقة التقية عند الشيعة ومنزلتها وجذورها التاريخية، ثم ذكر نماذج للتطبيقات العملية في ذلك، والباب الآخر دراسة الأسس الروائية لمبدأ التقية عند الشيعة وبيان تهافت أسانيدها، ومن ثم تهافت الأصول التي بنى عليها علماء مذهب التشيع هذا المبدأ، وأخيرا بيان تعارض وخلاف تقية القوم مع الكتاب والسنة0

ونسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين0

فيـصـل نـور

1419 هـ

 

 

محتويات الكتاب

الباب الأول :

الباب الثاني:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الأول

التعريف والمشروعية:

في لسان العرب مادة وقى: إتَّقَيتُ الشيء وتَقَيُته أتقِيه تقَيً وتَقِيّةً وتِقاء: حَذِرته .

ويقول ابن الأثير: وأصل اتقى: إوتَقَى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثم أبدلت تاء وأُدغمت، ومنه حديث على : كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي جعلناه وقاية من العدو0

وقال الراغب الإصفهاني: الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال وقيت الشيء، أقِيه وقاية ووَقَاء0

وفي المعجم الوسيط: ووقى الشيء وقيا ووقاية: صانه عن الأذى وحماه0 والتقية الخشية والخوف0

ويقول ابن حجر: ومعنى التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير، واصله وقية بوزن حمزة فَعلَة من الوقاية 0

وأصل مشروعية التقية مأخوذ من كتاب الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله عزوجل : { لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} – آل عمران/28

ويقول: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَأنه إِلاَ مَن أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِاْلإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} – النحل/106

و في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله وضع – وفي لفظ: تجاوز – عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه0

أقوال علماء أهل السنة في آيات التقية

يقول ابن كثير في تفسير الآيات: أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم – أي الكافرون- فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية وأبوالشعثاء والضحاك والربيع بن أنس ويؤيد ما قالوه قولُ الله تعالى:{ من كَفَرَ بِالله مِن بَعدِ إيمانه إلا مَن أكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان }، هو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله، والآية نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فوافقهم على ذلك مكرها وجاء معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن عادوا فعد، ولهذا اتفق العلماء على أن من أكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته ويجوز أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون فيه الأفاعيل ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم ويقول: أحد أحد، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا اسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إربا وهو ثابت على ذلك0

ويقول الشوكاني: إلا أن تتقوا منهم تقاة، دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ولكنها تكون ظاهراً لا باطنا وخالف في ذلك قوم من السلف فقالوا: لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام0

ويقول القرطبي: قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم، وقال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن ولا يقتل ولا يأتي مأثما، وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل، وقيل: أن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان 0 والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر0 وقال: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي، غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما0 وهذا قول يرده الكتاب والسنة 0 وقال: ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، يروى هذا عن الحسن البصري والأوزاعي وسحنون0 وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسرّ الإيمان0 وقال: أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل إنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون 0

ويقول الخازن: التقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية، قال تعالى:{ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، ثم هذه التقية رخصة 0

ويقول الزمخشري: رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع 0

ويقول الرازي: التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان 0 وظاهر الآية يدل على أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين، إلا أن مذهب الشافعي أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة عن النفس 0

ويقول الآلوسي: في الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته على اختلاف الدين كالكافر والمسلم والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة 0 وقال في الأول إن الحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلا أن يتقي ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة 0 والقسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه 0

ويقول محمد رشيد رضا: وقد استدل بعضهم بالآية على جواز التقية وهي ما يقال أو يفعل مخالفا للحق لأجل توقي الضرر ولهم فيها تعريفات وشروط وأحكام، وقيل: إنها مشروعة للمحافظة على النفس والعرض والمال 0 وقيل لا تجوز التقية لأجل المحافظة على المال وقيل إنها خاصة بحال الضعف0 وقيل بل عامة وينقل عن الخوارج أنهم منعوا التقية في الدين مطلقا وإن أكره المؤمن وخاف القتل لأن الدين لا يقدم عليه شيء0 ويرد عليهم قوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }0 وقصارى ما تدل عليه الآية أن للمسلم أن يتقي ما يتقى من مضرة الكافرين 0 وقصارى ما تدل عليه آية سورة النحل – إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان – ما تقدم آنفا وكل ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة لا من أصول الدين المتبعة دائما ولذلك كان من مسائل الإجماع وجوب الهجرة على المسلم من المكان الذي يخاف فيه إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية 0

ويقول المراغي: ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح 0 ويقول في قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة 0

وعلى هذه الأقوال سار بقية المفسرين والعلماء من أهل السنة والجماعة 0 إذن فالتقية رخصة يلجأ إليها المسلم إذا وقع تحت ظروف عصيبة جدا تصل إلى حد القتل والإيذاء العظيم تضطره إلى إظهار خلاف ما يبطن 0 وهي غالبا ما تكون مع الكفار، واتفقوا على هذا التصور العام، على خلاف يسير في بعض ما يتعلق بالمسألة كالقول بزوالها بعد عزة الإسلام، أو جوازها إلى يوم القيامة، وأفضلية اختيار العزيمة عليها في مواطن الإكراه، وكونها جائزة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بينهم الحالة بين المسلمين والكافرين، وغيرها مما مر بك، وهي لا تخرج في جميع أحوالها عن كونها رخصة في حال الضرورة 0

أقوال علماء الشيعة في هذه الآيات

وننتقل الآن إلى ذكر أقوال علماء الشيعة في تفسير الآيات السابقة ثم نشرع في بيان المقصود:

يقول القمي: هذه الآية رخصة ظاهرها خلاف باطنها يدان بظاهرها ولا يدان بباطنها إلا عند التقية، إن التقية رخصة للمؤمن

ويقول الطوسي: التقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس إذا كان ما يبطنه هو الحق فإن كان ما يبطنه باطلا كان ذلك نفاقا، والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق

ويقول الطبرسي: التقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس، والمعنى أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم ولم يحسن العشرة معهم فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك وفي ذلك الآية دلالة أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس 0 وقال في موضع آخر: هذه رخصة في موالاتهم – أي الكفـار- عند الخوف، والمراد بهذه الموالاة المخالفة الظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة

ويقول الكاشاني: منع من موالاتهم ظاهرا وباطنا في الأوقات كلها إلا وقت المخافة فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز بالمخالفة

ويقول شبر: إلا أن تتقوا منهم تقاة، تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ورخص لهم إظهار موالاتهم إذا خافوهم مع إبطان عداوتهم وهي التقية التي تدين بها الإمامية

ويقول الجنابذي: إن خاف أحد من الكافرين على نفسه أو ماله أو عياله أو عرضه أو إخوانه المؤمنين جاز له إظهار الموالاة مع الكافرين مخالفة لما في قلبه لا أنه يجوز موالاتهم حقيقة فإن التقية المشروعة المأمور بها أن تكون على خوف من معاشرك إن اطلع على ما في قلبك، فتظهر الموافقة له بما هو خلاف ما في قلبك

ويقول الحائري: مثل أن يكون المؤمن بينهم – أي الكافرين- ويخاف منهم فإن الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع فحينئذ لا بأس، وهذه رخصة فلو صبر حتى قتل كان أجره عظيما

ويقول الطباطبائي: التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شيء، وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية0

ويقول السبزواري: إن من خالط الكفار وعايشهم، لا بأس له بأن يظهر مودتهم بلسانه ومداراتهم تقية منهم ودفعا لضررهم عن نفسه من غير عقيدة بهم وبطريقتهم ومسلكهم، وقيل: التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة وان قتل القائل، يشهد على ذلك قصة عمار ووالديه0

ويقول عبدالحميد المهاجر: الآية صريحة في أن الإسلام لا يسمح لك أن تتخذ الكافر وليا من دون المؤمنين00إلا إذا وجدت نفسك في مأزق لا تستطيع الخروج منه بغير إعلان التقية وهي أنك تقول شيئا أو تفعل شيئا بخلاف ما تعتقد من أجل الحفاظ على نفسك والإبقاء على حياتك

ويقول ناصر مكارم: إلا أن تتقوا منهم تقاة، هذا استثناء من الحكم المذكور، وهو إذا اقتضت الظروف فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم0 وقال: أما إذا كانت التقية سببا في ترويج الباطل وضلالة الناس وإسناد الظلم فهي هنا حرام0

وعلى هذا المنوال سائر بقية المفسرين والعلماء من الشيعة في بيان المسألة، ويظهر مما سبق أنهم لا يختلفون مع أهل السنة والجماعة في مفهوم التقية الذي مر ذكره0 وأضاف آخرون من القوم أن مجال التقية إنما هو حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس

وزعم البعض: أن التقية لا تدخل في باب العقائد عندهم لأنها إذن ورخصة تباح في بعض الحالات الخاصة التي حددتها كتب الفقهاء، ويعدون التقية من الفروع ولا ينزلونها منزلة العقائد لأنها رخصة

وأدعى آخرون منهم أنه لا مكان للتقية في زماننا هذا، ولا مسوغ لها ولا مبرر، وأنها أصبحت في خبر كان 0

حقيقة التقية عند الشيعة و منزلتها وبيان مشروعيتها عندهم في الأمن ودون توفر أسبابها

وبعد، لنشرع الآن في بيان المقصود، فنقول: إن حقيقة التقية ومقاصدها وممن تجوز عند الشيعة تختلف تماما عما مر بك آنفا، فبيانهم للتقية بهذه الصورة هو في ذاته أول تطبيق عملي للتقية، فهي تقية مركبهً إن صح التعبير، وإليك بيان ذلك:

يعتقد الشيعة خلافا لما مر من أن التقية واجبة لا يجوز تركها إلى يوم القيامة، وأن تركها بمنزلة من ترك الصلاة، وأنها تسعة أعشار الدين، ومن ضروريات مذهب التشيع، ولا يتم الإيمان إلا بها، وليست رخصة في حال الضرورة كما مر، بل هي ضرورة في ذاتها وإنما تكون من مخالفيهم في المذهب0

يقول الصدوق: اعتقادنا في التقية أنها واجبة0 من تركها بمنزلة من ترك الصلاة، ولا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله وعن دين الإمامية وخالف الله ورسوله والأئمة

ويقول صاحب الهداية: والتقية واجبة لا يجوز تركها إلى أن يخرج القائم فمن تركها فقد دخل في نهي الله عزوجل ونهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة صلوات الله عليهم

ويقول العاملي: الأخبار متواترة صريحة في أن التقية باقية إلى أن يقوم القائم

ويقول الخميني: وترك التقية من الموبقات التي تلقي صاحبها قعر جهنم وهي توازي جحد النبوة والكفر بالله العظيم

وقد وضعوا على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وبقية أئمة أهل البيت رحمهم الله ما يؤيد هذا الاعتقاد، فرووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تارك التقية كتارك الصلاة

ومثله عن الصادق رحمه الله أنه قال: لو قلت: إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا

ورووا: تارك التقية كافر

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: التقية من دين الله ولا دين لمن لا تقية له والله لولا التقية ما عبد الله

ورووا عن علي رضي الله عنه أنه قال: التقية ديني ودين أهل بيتي

وعن الباقر رحمه الله أنه قال: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان – وفي لفظ ولا دين - لمن لا تقية له

وعن الصادق رحمه الله أنه قال: إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له

وعنه أيضا أنه قال: إن التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمـن لا تقيـة له

وقوله: لا خير فيمن لا تقية له، ولا إيمان لمن لا تقية له

وقوله: أبى الله عزوجل لنا ولكم في دينه إلا التقية

وقوله: التقية من دين الله عزوجل ، قلت – أي الراوي-: من دين الله؟ قال: أي والله من دين الله

وقوله: لا دين لمن لا تقية له، وإن التقية لأوسع مما بين السماء والأرض، وقال: من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتكلم في دولة الباطل إلا بالتقية

وقوله: يغفر الله للمؤمنين كل ذنب ويطهر منه الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية وتضييع حقوق الإخوان

ورووا عن الرضا رحمه الله أنه قال: لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله عزوجل أعملكم بالتقية

ولم يقتصر الأمر على هذا بل وضعوا روايات ترغب في العمل بالتقية: فرووا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مثل مؤمن لا تقية له كمثل جسد لا راس له

وعن علي رضي الله عنه أنه قال: التقية من أفضل أعمال المؤمنين

وعن زين العابدين رحمه الله أنه سئل: من أكمل الناس في خصال الخير؟ قال: أعملهم بالتقية

وعن الباقر أنه قال للصادق رحمهما الله: ما خلق الله شيئا أقر لعين أبيك من التقية، والتقية جنة المؤمن

وعنه أنه قال: أشرف أخلاق الأئمة والفاضلين من شيعتنا التقية

وعن الصادق أنه قال: ما عُبِدَ الله بشيءٍ احب إليه من الخبء، قيل: وما الخبء؟ قال: التقية

وعن سفيان بن سعيد، عن الصادق قال: يا سفيان عليك بالتقية فإنها سنة إبراهيم الخليل عزوجل

وعنه أيضا قال: إنكم علي دين من كتمه أعزة الله ومن أذاعه أذله الله

وعن حبيب بن بشير عن الصادق قال: سمعت أبي بقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إليَّ من التقية، يا حبيب أنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم يكن له تقية وضعه الله

وعنه أيضا قال: لا حنث ولا كفارة على من حلف تقية

وعنه أيضا أنه قال: يؤتى بالواحد من مقصري شيعتنا في أعماله بعد أن صان الولاية والتقية وحقوق إخوانه ويوقف بإزائه ما بين مائة وأكثر من ذلك إلى مائة ألف من النصاب – أي أهل السنة – فيقال له: هؤلاء فداؤك من النار، فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنة وأولئك النصاب النار 0

ثم وضعوا روايات ترهب من ترك التقية قبل خروج المهدي المنتظر:

فعن الصادق أنه قال: ليس منا من لم يلزم التقية

وقال: إذا قام قائمنا سقطت التقية

وعن الرضا أنه قال: من ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا

والطريف أن مهدي القوم نفسه في تقية كما يزعمون

وبهذا نكون قد وقفنا على شيء من حقيقة التقية ومنزلتها عند الشيعة، ولاشك أنك لا تجد أحداً من القوم يذكر عند كلامه عن التقية هذه الحقائق، فغالبا ما تراهم يرددون أقوال أهل السنة في المسألة ويظهرونها بأنها من المسلمات عند الفريقين وأنهم – أي الشيعة - لا يختلفون عن سائر فرق المسلمين في تعريف التقية من أنها رخصة وقتيه يلجأ إليها المسلم في حال الضرورة لرفع ضرر كبير يقع عليه ويؤدي به إلى النطق بكلمة الكفر أو إظهار خلاف ما يبطن شريطة أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان0 فالقوم إذن لا يرون في التقية أنها مشروعة في حال الضرورة، لذا تراهم قد وضعوا روايات تحث عليها من دون أن تتوفر أسبابها أو تكون قائمة كالخوف أو الإكراه، حتى تكون بذلك مسلكا فطريا عند الشيعة في حياتهم تصاحبهم حيث ذهبوا، فرووا مثلا عن الصادق أنه قال: عليكم بالتقية فأنه ليس منا من لم يجعله شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيته مع من يحذره

ورووا: اتق حيث لا يُتَّقى

ويذكر الخميني في معرض كلامه عن أقسام التقية أن منها التقية المداراتية وعرفها بقوله: وهو تحبيب المخالفين وجر مودتهم من غير خوف ضرر كما في التقية خوفا

فهو بقوله هذا يؤكد خلاصة عقيدة التقية عند القوم من أنها لا تعلق لها بالضرر أو الخوف الذي من أجله شرعت التقية، بل قالها صراحةً أن التقية واجبة من المخالفين ولو كان مأمونا وغير خائف على نفسه وغيره

ويضيف آخر: وقد تكون التقية مداراةً من دون خوف وضرر فِعلِي لجلب مودة العامة والتحبيب بيننا وبينهم

ويقول آخر: ومنها التقية المستحبة وتكون في الموارد التي لا يتوجه فيها للإنسان ضرر فِعِلي وآني ولكن من الممكن أن يلحقه الضرر في المستقبل، كترك مداراة العامة ومعاشرتهم

وهكذا نجد أن شروط المشروعية كالخوف أو الضرر قد سقطت، وهي أصل جواز التقية، لنتبين شيئا فشيئا اختلاف تقية القوم عن مفهومها عند غيرهم من المسلمين0

استعمال التقية مع أهل السنة

ومن الأقوال السابقة نتبين أيضا حقيقة أخرى وهي الجهة التي تجوز منها التقية عند القوم فقد ذكرنا عند كلامنا في الآيات الواردة في مشروعية التقية أنها وردت في الكافرين لصريح منطوق الآية، لقوله عزوجل : ] لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة[ . فقد ذكر الطبري مثلا في تفسيره أن هذه الآية إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم0 وإن كان البعض قد تجاوز ورأى أنها تنسحب على المسلمين إذا شابهت الحالة بينهم الحالة بين المسلمين والكافرين، إلا أن التقية عند القوم إنما هي غالبا ما تكون من العامة أو المخالفين لهم في المذهب وهم عادة ما يطلقون هذه المصطلحات على أهل السنة والجماعة كما رأيت وسترى0 ولبيان أوضح لكون التقية عند الشيعة إنما تكون من أهل السنة نورد أقوالا أخرى زيادة على ما مر بك 0

يقول الشيخ المفيد: التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا

ويقول محمد رضا المظفر: التقية مكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم وستر اعتقادهم وأعمالهم المختصة عنهم

وهذه المسألة من المسلمات عند القوم حتى كان الخلاف بينهم في جوازها إن لم يحضر أحد من المخالفين، يقول البحراني: إن الأئمة يخالفون بين الأحكام وان لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام، وقال: ولعل السر في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كل ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر سخف مذهبهم في نظر العامة وكذبوهم في نقلهم ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين وهانوا في نظرهم بخلاف ما إذا اتفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم فإنهم يصدقونهم ويشتد بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم ويصير ذلك سببا لثوران العداوة، وإلى ذلك يشير قولهعزوجل : ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا

ويحضرني هنا أيضا سبب آخر فيه طرافة، فقد روى القوم عن الصادق أنه قال: إن لنا أعداء من الجن يخرجون حديثنا إلى أعدائنا من الإنس 0

نعود إلى قول البحراني، فأنت ترى أن الأصل في مشروعية التقية عندهم هو وجود أحد من المخالفين الذين عرفت بأن المقصود بهم أهل السنة والجماعة، ولنذكر هنا روايات أخرى تدل على عدم شرط وجود أحد من المخالفين لحمل الأخبار على التقية0 مما يؤكد لك أن الأصل هو وجودها:

نماذج من روايات الشيعة في تطبيق الأئمة للتقية

فعن زرارة عن أبي جعفر قال: سألته عن مسالة فأجابني ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، قال: ثم قلت لأبي عبدالله عليه السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال: فأجابني بمثل جواب أبيه

وعن موسى بن أشيم قال: كنت عند أبي عبدالله فسأله رجل عن آية من كتاب الله عليه السلام فأخبره بها ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول، قال: فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لا يخطئ في الواو وشبهه وجئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كله فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي فسكنت نفسي فعلمت أن ذلك منه تقية

وعن عمر بن رياح أنه سأل أبا جعفرعليه السلام عن مسألة فأجابه فيها بجواب ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول فقال لأبي جعفر هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية فشك في أمره وإمامته فلقي رجلا من أصحاب أبي جعفر يقال له محمد بن قيس فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني بخلاف جوابه الأول قلت له لم فعلت ذلك فقال فعلته للتقية وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يُفتيني به وقبوله والعمل به فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي فقال محمد بن قيس فلعله حضرك من اتقاه فقال ما حضر مجلسه في المسألتين غيري، لا ولكن جوابيه جميعا خرجا على وجه التبخيت ولن يحفظ ما أجاب به العام الماضي فيجيب بمثله، فرجع عن إمامته وقال لا يكون إمام من يفتي بالباطل على شيء بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال ولا يكون إماما من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله ولا من يرخي ستره ويغلق بابه ولا يسع الإمام إلا الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمال بسببه إلى قول البترية ومال معه نفر يسير

اعتراف بعض علماء الشيعة بضياع اكثر أحكام مذهب أهل البيت بسبب التقية

والروايات في الباب كثيرة، وهكذا تجد أن معالم الدين عند القوم قد ضاعت وأن أحكامه قد ذهبت واندثرت حتى لم يبق في أيديهم من فقه آل البيت الذي يدعون عملهم به شيء لشدة الاضطراب الواقع فيه حتى أقروا بذلك، يقول صاحب الحدائق: إن الكثير من أخبار الشيعة وردت على جهة التقية التي هي على خلاف الحكم الشرعي واقعا

وقال في موضع آخر: فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل، لامتزاج أخباره بأخبار التقية، كما اعترف بذلك ثقة الإسلام وعلم الأعلام محمد بن يعقوب الكليني نور الله مرقده في جامعه الكافي، حتى أنه قدس سره تخطى العمل بالترجيحات المروية عند تعارض الأخبار، والتجأ إلى مجرد الرد والتسليم للائمة الأبرار

ويقول شيخ الطائفة الطوسي في تهذيبه: إن أحاديث أصحابنا فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا، إلى أن قال: أنه بسبب ذلك رجع جماعة عن اعتقاد الحق ومنهم أبو الحسين الهاروني العلوي حيث كان يعتقد الحق ويدين بالإمامة فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره لما لم يتبين له وجوه المعاني فيها، وهذا يدل على أنه دخل فيه على غير بصيرة واعتقد المذهب من جهة التقليد

والأمر كما قال شيخ الطائفة، ولا بد، لقوله تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيــــرا} – [النساء/82،] وعن الصادق رحمه الله قال: إن مما أعان الله به على الكذابين النسيان 0 فإنك لا تجد عند القوم مسألة لا تسلم من الاضطراب، ومن راجع مسائل القوم في جميع الأبواب فأنه لا بد أن يجد أقوال عدة في المسألة الواحدة وكلها منسوبة إلى الأئمة بل وإلى الإمام نفسه، حتى قال الكاشاني: تراهم يختلفون في المسألة الواحدة على عشرين قولاً أو ثلاثين أو أزيد، بل لو شئت أقول لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها . حتى رووا عن الباقر أنه يتكلم على سبعين وجها 0 والمعلوم عند القوم أن الأخبار التي خرجت على طريق التقية لموافقتها لمذهب العامة لا يجب العمل بها 0 ولذا لا بد من الاجتهاد في معرفة الأحكام التي صدرت عن الأئمة دون تقية حتى يعمل بها، ودون ذلك خرط القتاد لمن تدبر، فواحد يرجح هذا القول ويسقط الآخر وثاني يرجح قولاً آخر ويسقط غيره، وآخر يرجح غيرهما ويسقط ما سواه ويقول: إنها تقية، وهكذا، وقد أدت هذه الحقيقة بدورها إلى بروز ظاهرة المرجعية عند الشيعة وما صاحبها من سلبيات ومساوئ إلى يومنا هذا، ليس كتابنا هذا محل بيانه0

تكفير الشيعة للمخالفين

ولكن لماذا انصبت جل روايات الشيعة التي وردت في التقية في المخالفين؟

الجواب عن هذا هو أن الشيعة يرون أن كل من لا يعتقد بإمامة أئمتهم الإثني عشر فهو كافر، ومن ثم كافة المسلمين سوى الشيعة الإمامية الإثني عشرية كفار، ومن كان هذا حكمه فالتقية منه مشروعة، وإليك بيان موجز لعقيدتهم فيمن سواهم من المسلمين: روى القوم عن الصادق أنه قال: أن أول ما يسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله جل جلاله عن الصلوات المفروضات، وعن الزكاة المفروضة، وعن الصيام المفروض، وعن الحج المفروض، وعن ولايتنا أهل البيت، فإن اقر بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته وصومه وزكاته وحجه، وإن لم يقر بولايتنا بين يديه جل جلاله لم يقبل الله منه شيئا من أعماله .

وعنه أيضا أنه قال: نزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد السلام يقرئك السلام ويقول: خلقت السماوات السبع وما فيهن والأرضين السبع ومن عليهن وما خلقت موضعا أعظم من الركن والمقام، ولو أن عبدا دعاني هناك منذ خلقت السماوات والأرضين ثم لقيني جاحدا لولاية علي لأكببته في سقر، وفي رواية: لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب لأكبه الله عزوجل في النار، وفي رواية عن زين العابدين: أن افضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلا عُمِّر ما عُمِّرَ نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يصوم النهار ويقوم في ذلك الموضع ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا، وعن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو أن عبدا عبد الله ألف سنة لا يقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت، ولو أن عبدا عبد الله ألف سنة وجاء بعمل اثنين وسبعين نبيا ما يقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت وإلا أكبه الله على منخريه في نار جهنم، وفي رواية: والله لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله منه إلا بولايتنا، وفي أخرى: أما والله لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية وليي ما كان له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان .

ونسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: التاركون ولاية علي خارجون عن الإسلام .

وإلى الصادق أيضا قوله: الجاحد لولاية علي كعابد وثن ، وغيرها من الروايات0

وعلى هذا اتفقت أقوال أئمتهم، فهذا الشيخ المفيد يحكي إجماع الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار

ويقول الصدوق: من جحد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من بعده فأنه بمنزلة من جحد نبوة الأنبياء

ويقول الكاشاني: من جحد إمامة أحدهم فهو بمنزلة من جحد نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام

ويقول أبو الحسن الشريف: ليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه تعالى ورسوله وبين من كفر بالأئمة عليهم السلام؟00 والحق ما قاله علم الهدى من كونهم كفارا مخلدين في النار، وعندي أن كفر هؤلاء من أوضح الواضحات في مذهب أهل البيت عليهم السلام

وقال: إن المخالف كافر لا حظ له في الإسلام بوجه من الوجوه

ويقول السيد شبّر: واعلم أن جمعاً من علماء الإمامية حكموا بكفر أهل الخلاف، ونقلوا الإجماع على دخولهم النار، والأخبار في كفرهم كثيرة لا تحصى، ونقل عن العلامة في شرح الياقوت قوله: أما دافعوا النص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى تكفيرهم

ويقول النجفي: والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا، وقال: كيف تتصور الأخوة بين المؤمن والمخالف بعد تواتر الروايات وتضافر الآيات في وجوب معاداتهم والبراءة منهم

وقال الطوسي: المخالف للحق كافر

وكذا قال إبن إدريس في السرائر: والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا

ويقول المجلسي: المخالفون ليسوا من أهل الجنان ولا من أهل المنزلة بين الجنة والنار وهي الأعراف بل هم مخلدون في النار، ولو قام القائم بدأ بقتل هؤلاء قبل الكفار . ورد على من قال بعدم خلودهم في النار بأن هذا القول منهم نشأ من عدم تتبعهم للأخبار، والأحاديث الدالة على خلودهم متواترة أو قريبة منها . وقال في موضع آخر: اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضل عليهم غيرهم يدل على أنهم كفار مخلدون في النار

ويقول يوسف البحراني: وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله، وبين من كفر بالأئمة عليهم السلام؟ مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين ، وقال في موضع آخر : أن المخالف كافر لا حظ له في الإسلام بوجه من الوجوه كما حققناه في كتابنا الشهاب الثاقب

وقال المازندراني: ومن أنكرها – يعني الولاية – فهو كافر حيث أنكر أعظم ما جاء به الرسول وأصلا من أصوله

ويقول المامقاني: وغاية ما يستفاد من الأخبار جريان حكم الكافر والمشرك في الآخرة على كل من لم يكن إثنى عشريا

ويقول الخميني: الإيمان لا يحصل إلا بواسطة ولاية علي وأوصيائه من المعصومين الطاهرين عليهم السلام بل لا يقبل الإيمان بالله ورسوله من دون الولاية، وقال في موضع آخر: ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال عند الله سبحانه بل هو شرط في قبول الإيمان بالله والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم 0

والروايات والأقوال في الباب تطول، حتى عقد بعضهم أبوابا خاصة في بيان هذه المسألة منها:

باب أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية

باب كفر المخالفين والنصاب

وبهذا تقف على سبب كون جل مرويات التقية عند الشيعة أن لم تكن كلها إنما وردت من مخالفيهم من أهل السنة، وسنطلعك على المزيد مما ورد في هذا الباب فضلا عن بعض التطبيقات العملية للتقية من قبل علماء القوم المعاصرين تجاه أهل السنة0

جذور التقية

جذور التقية وأسبابها:

عرفت مما مر، منزلة التقية عند الشيعة وكيف أنهم خالفوا بمعتقدهم فيها سائر فرق المسلمين حتى اشتهروا بها دونهم، وعدها بعضهم من مختصاتهم ومتفرداتهم، وأقر بعضهم بهذا بقوله: أن التقية كانت شعارا لآل البيت عليهم السلام وسمة تعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف ، وقد تفطن القوم إلى هذا الأمر وكيف أن أمرا مشروعا كهذا أصبح وبالا عليهم ومطعناً فيهم فكان أن اجتهدوا في التماس الأعذار وخلق الأسباب لإضفاء الشرعية على اشتهارهم بها دون غيرهم، فقالوا: بأن الضغوط السياسية كانت تمارس ضد الشيعة على يد بني أمية وبني العباس حيث لم يكن يسمح لهم بالتعبير عن وجودهم .

وقالوا: ومن هذا الضغط التزم الشيعة طريق التقية ومعناها عندهم الحيطة والحذر من القوي الظالم الذي يأخذ المتهم دون أن يحاكمه ويأذن له بالدفاع عن نفسه0 واليوم لا أثر للتقية عند الشيعة حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

وأضافوا: إن السر يكمن في الأسس الفكرية للخط الشيعي الذي ينتهجه مذهب أهل البيت من حكام الجور والظلم والذي يشكل طرفا مضادا للسلطة الطاغوتية الحاكمة التي نزت على الأمة بالقهر والغلبة وتسلطت على رقاب الناس بالحديد والنار وهذا الموقف بنفسه يشكل نظرة عدائية لدى الحكام فيفرغون جام غضبهم وحقدهم على الشيعة لأنهم وحدهم الذين يكمن فيهم الخطر على ملكهم ودولتهم00فقد كان الحكام من الأمويين والعباسيين بل العثمانيين يتربصون بالشيعي لإهدار دمه فقد كان الكفر والزندقة أخف بنظرهم من شيعة آل محمد .

ويقولون: الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم وأبناء دينهم إنما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك من عصر الأمويين ثم العباسيين والعثمانيين أي ضغط على الشيعة لكان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها00و إن الشيعة تتقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتقيهم السني غير أن الشيعي ولأسباب لا تخفى يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لا لقصور في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك لأنه يدرك أن الفتك والقتل مصيره إذا صرح بمعتقده الذي هو موافق لأصول الشرع الإسلامي وعقائده .

دعوى الضغوط السياسية التي كانت تمارس ضد الشيعة تفنيد القول باقتصار وقوع الظلم على الشيعة دون سار المسلمين واشتهارهم بسبب ذلك بالتقية نماذج من علماء أهل السنة تعرضوا لتنكيل الحكام

ولا شك أن القول بالاضطهاد الذي وقع إبّان حكم الأمويين والعباسيين لا يخلو من الصحة، وإنما مجانبة الصواب هو القول باقتصار ذلك على الشيعة، كما يدعى بعضهم، بل قال: بأن أهل السنة والجماعة كانوا بعيدين عن ذلك البلاء لأنهم كانوا في معظم عهودهم على وفاق تام مع الحكام فلم يتعرضوا لا لقتل ولا لنهب ولا لظلم0 ، فهذا القول غير صحيح، فإن الكثير من علماء أهل السنة قد تعرضوا إلى شتى أنواع التنكيل والتعذيب وعلى رأسهم أئمة المذاهب، فهذا أبو حنيفة النعمان رحمه الله عذب حتى قتل في سجن المنصور، لأن هواه كان مع أهل البيت، وكان مؤيدا لخروج زيد بن علي على الأمويين ومن بعده لخروج النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم على العباسيين، وكذلك الإمام مالك رحمه الله ضرب بالسياط حتى خلعت كتفه، بسبب التأييد نفسه، ولما سئل: هل يجوز قتال الخارجين على الخلفاء؟ أجاب: يجوز إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز، وهو يؤكد بهذا شرعية جميع من خرج على الخلفاء، ولما قيل: فإن لم يكونوا مثل عمر بن عبد العزيز قال: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما0 وأكثر من هذا أنه كان يحث الناس على الخروج مع النفس الزكية على العباسيين ولما قيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر؟ قال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين0 وهذه المسائل من أعظم الأسباب التي تبرر اللجوء إلى التقية وهي هدف الحكام لإيقاع أشد أنواع التنكيل بقائليها أو متبنيها، رغم ذلك لم يذكر لنا التاريخ مصانعتهم للحكام فيها أو لجوئهم إلي جحور التقية هربا بجلودهم لأنهم كانوا قدوة للناس فكان الأولى بهم الأخذ بالعزيمة0 وكذلك محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله المشهورة في كتب التاريخ أيام المأمون والمتوكل والواثق في مسألة خلق القرآن، والذي مات بسببها الكثيرون كمحمد بن نوح في قيده وهو مرافق لابن حنبل حين أعيدا إلى بغداد فمات في الطريق، ونعيم بن حماد الفقيه المحدث ويوسف بن يحي البوطي المصري صاحب الشافعي وخليفته على حلقته اللذان ماتا في السجن، والعالم الجليل أحمد بن نصر الخزاعي الذي قتله الواثق بنفسه بالسيف، وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله الذي قتله بعض متعصبي المالكية بمصر، وغيرهم، وسرد قصص البلاء والمحن التي نزلت بهؤلاء وغيرهم من علماء أهل السنة فيها طول قد يخرجنا عن موضوع الكتاب0 فالمقصود هنا أن إيهام القوم للعامة والسذج من بني جلدتهم أو غيرهم من أن أسباب اشتهار الشيعة بهذه العقيدة هو وقوع الظلم والاضطهاد عليهم أو اقتصاره عليهم دون بقية الفرق هو المردود والمجانب للحق والصواب، لأنك لن تجد أحداً من المسلمين يختلف مع الشيعة في مشروعية التقية لهم إذا كانت أسبابها بالشكل الذي يرددونه0

الأسباب الحقيقة للجوء الشيعة إلى الأخذ بالتقية

ثم إن المرء يتساءل هنا: ما هذه العقائد التي لو أظهروها لاستوجبت غضب الحكام وغير الحكام من الأمويين والعباسيين والعثمانيين فيصبون بسببها جام غضبهم عليهم ويتربصون بالشيعي لإهدار دمه حتى كان الكفر والزندقة أخف في نظرهم من شيعة آل محمد، حتى اضطروهم بسبب ذلك إلى اللجؤ إلى هذه التقية التي شذوا بها عن غيرهم؟ أهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين؟ أم موافق لأصول الشرع الإسلامي وعقائده كما قال السبحاني في قوله الآنف الذكر؟0 أقول: لا شك أنه من المحال أن يكون ما عليه القوم موافق لعقائد سائر المسلمين وإلا لانتفت مسألة التقية من أصلها، إذن لا بد من القول بخلاف ذلك0 والأمر في حقيقته كذلك، فإن كثيرا من عقائد القوم هو خلاف ما عليه إجماع المسلمين حتى اضطرهم هذا إلى إخفائها تحت ستار التقية، والتذرع في مشروعيتها بالخوف من سيوف بني أمية وبني العباس مما يستوجب الأمر منا إقامة البينة ورفع الالتباس0

أسباب وضع مبدأ التقية

فنقول: لعل أقدم نص وقفت عليه في أسباب التقية عند القوم ما أورده النويختي وهو من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجري، يقول في كتابه فرق الشيعة في معرض كلامه عن الاختلاف بين الشيعة بعد وفاة الباقر: إن بعضهم مال إلي قول سليمان بن جرير وهو الذي قال لأصحابه: أن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدا وهما القول بالبداء وإجازة التقية، أما التقية فأنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين فأجابوا فيها وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودونوه ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة لتقادم العهد وتفاوت الأوقات لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد ولا في شهر واحد بل في سنين متباعدة واشهر متباينة وأوقات متفرقة فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة فلما وقفوا علي ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه وأنكروه عليهم فقالوا: من أين هذا الاختلاف وكيف جاز ذلك؟ قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية ولنا أن نجيب بما أجبنا وكيف شئنا لأن ذلك إلينا ونحن نعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤنا وبقاؤكم وكف عدوكم عنا وعنكم، فمتى يظهر من هؤلاء على كذب ومتى يعرف لهم حق من باطل، فمال إلى سليمان بن جرير هذا لهذا القول جماعة من أصحاب أبي جعفر وتركوا القول بإمامة جعفر عليه السلام

فهذه الرواية تفيد في بيان أحد أسباب القول بالتقية عند القوم، ولكن لا بد من بيان أمر مهم قبل كل شيء وهو أننا ننزه أئمة أهل البيت رحمهم الله عما في هذه الرواية وأمثالها من مآخذ ومطاعن، ولكن إيرادنا لها هو لبيان أن قضية المساوئ المترتبة على القول بالتقية قديمة جدا، وإن كان لا بد من حمل هذا الخبر على شيء فهو بيان أن أئمة أهل البيت وعلماء الرافضة كما في صدر الخبر يسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان، فالذين وضعوا مذهب التشيع لأهل البيت بعيدا عن أئمة أهل البيت رحمهم الله اضطربت عليهم الكثير من العقائد التي بنوها على الأصل القائل بوجوب الإمامة بالنص من الله ورسوله وهو أساس الخلاف بين السنة والشيعة، كالقول بوجوب العصمة للإمام وغيرها من عقائد، وحيث إن الأمر قد بلغ في الكثير من المسائل عند القوم إلى حد التناقض، ولا بد لقوله تعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا – [النساء 82]، وخالفت الكثير منها واقع المسلمين، وهو محال باعتبار أن القوم يرون العصمة في أئمتهم مما يتحتم معه نفي التعارض فيما يصدر من معين واحد، بسبب ذلك لجئوا إلى حمل جميع أمثال هذه الروايات المضطربة على القول بالتقية، فهذا أحد الأسباب التي مهدت لترسيخ مبدأ التقية ورفع منزلتها إلى الحد الذي رأيت0 وأسسوا بذلك أرضية خصبهً ومساحة كافية لتحرك الوضاعين من خلالها ليضعوا ما تهواه أنفسهم على لسان الأئمة0 ويصرفوا كل ما يتعارض مع مخططهم من أقوال أو أفعال قد تكون صدرت حقا عن الأئمة رحمهم الله وبالأخص تلك التي توافق ما عليه إجماع المسلمين0 ولا شك أن الأسباب هذه لا يمكن التغافل عنها فهي مدعومة بشواهد كثيرة، ولكن نريد التركيز هنا على السبب الرئيسي من وراء وضع مبدأ التقية عند الشيعة بالصورة التي مرت بك، وهذا السبب هو تمزيق وحدة المسلمين بإبعاد من يستطيعوا إبعاده عن الإسلام وعن سائر المسلمين، فمن يستقرئ تاريخ الشيعة وعقائدهم يجد أن من وضع أسسها وأقام بنيانها إنما أراد بها أن يبعد الشيعة عن سائر المسلمين وأن يجعلوهم يشذون بعقائدهم عنهم، فهم يعرفون حق المعرفة أن واقع المسلمين وتاريخهم لا يتفق مع العقائد التي أرادوها لهذه الطائفة، فأحوال الأئمة رحمهم الله بدأ من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسائر أهل بيته عليهم السلام من أقوال وأفعال تتعارض تماما مع هذه العقائد التي وضعوها، إذ كيف يستقيم للشيعة مثلا أن ينادوا بأن الصحابة رضوان الله عليهم وسائر المسلمين قد خالفوا أمر الله عزوجل وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الأئمة والإمامة وأنهم اغتصبوا حقوق من نصّ الله ورسوله عليهم بينما نجد أن الواقع يختلف تماما فالعلاقة الحميمة هي التي كانت تجمع بين علي وبنيه رضي الله عنهم وسائر الصحابة وعلى رأسهم الشيخان وذو النورين رضي الله عنهم أجمعين فقد كانت بينهم ألفة واضحة حتى إن كثيرا من أهل البيت عليهم السلام سموا أبنائهم وبناتهم بأسماء الخلفاء الثلاثة، وعلى رأس هؤلاء الأمير والسبطين رضي الله عنهم ، والمصاهرات بينهم مسطورة في كتب الفريقين كزواج الفاروق عمر من أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين0 وكذا كانت الأحوال في سائر شئونهم كالصلاة خلفهم والجهاد معهم وثنائهم عليهم وإقرارهم بفضلهم ومعرفة مكانتهم، فضلا عن تلك الآلاف المؤلفة من الأقوال المروية عن أهل البيت عليهم السلام والتي توافق ما عليه سائر المسلمين من عقائد، لذا فهم يروون أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان في تقية على عهد الثلاثة . وكذلك لما آل الأمر إليه بعد مقتل ذي النورين رضي الله عنهم وكان أيضا خلافا لمدعى القوم، فقالوا، كما ذكر ذلك الجزائري: إن الأمير عليه السلام لما جلس على سرير الخلافة لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن – غير المحرف بزعمهم– وإخفاء هذا لما فيه من إظهار الشنعة على من سبقه كما لم يقدر على النهي عن صلاة الضحى وكما لم يقدر على إجراء المتعتين متعة الحج ومتعة النساء، وكما لم يقدر على عزل شريح عن القضاة ومعاوية عن الإمارة 0 فكما تري فإن الواقع يختلف تماما عن عقائد القوم، فكان لزاما على هؤلاء أن يجدوا المخرج من هذا المأزق الذي يتعارض مع مزاعمهم المذكورة، فكان أن وضعوا عقيدة التقية بالصورة التي بيناها كمخرج لصرف جميع تلك النصوص وغيرها من التي تصب في اتجاه التوفيق بين الشيعة وسائر المسلمين عن ظاهرها، وهولوا من شأن هذه العقيدة كما مر، ورهبوا من تركها حتى يخلقوا بيئة مواتية يتحركون من خلالها إلى تحقيق مقاصدهم التي تلقفها الكثير من طلاب الدنيا عند القوم عبر التاريخ فأصلوها وجعلوها من أركان الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها حتى جعلوها تسعة أعشار الدين، وضيقوا الأمر علي المخلصين من أتباع المذهب الذين حاولوا تنقيته مما شابه من ترهات وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان كما سترى، وبهذا ضمنوا إبقاء الطائفة الشيعية بمنأى عن سائر فرق المسلمين إلي أبد الآبدين، ولا بد لنا من بيان موجز لهذه القضية وكيف كان سيرهم العملي في هذا الاتجاه0

اعتقاد الشيعة بأن القرآن الموجود بين أيدينا محرف ذكر نماذج من القائلين بالتحريف عند الشيعة

أول ما اصطدم به أعداء الإسلام في طريقهم إلى تفريق وحدة المسلمين هو القرآن الكريم، مصدر التشريع الأول، إذ لم يتأتَّ لهم النفاذ إليه من باب التقية لتعطيل أحكامه فكان أن عمدوا إلى فرية القول بتحريف القرآن، فقد أجمع أئمة التشيع سوى من لا يعتد بخلافه عندهم على أن القرآن الموجود بين الدفتين ليس هو ذلك القرآن الذي أنزله الله عزوجل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهذا القرآن الموجود بين أيدينا قد حذفت منه آيات كثيرة، بل وسور، فيها ذكر الإمامة وآل محمد واسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكذلك فضائح المهاجرين والأنصار وغيرهم بزعمهم، وإن القرآن كما أنزل إنما جمعه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، ثم توارثه الأئمة من بعده، وهو عند المهدي الآن وسيظهره عند خروجه0 وأيدوا أقوالهم هذه بروايات وضعوها على لسان الأئمة، ذكرنا بعضا منها في كتابنا الإمامة والنص من سلسلة الحقائق الغائبة التي بين يديك0

يقول الشيخ المفيد: إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان0

وقال: اتفقت الإمامية على أن أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

وقال: إن الذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنزيله وليس فيه شيء من كلام البشر، وهو جمهور المنزل والباقي مما أنزله الله تعالى قرآناً عند المستحفظ للشريعة، المستودع للأحكام لم يضع منه شيء، وإن كان الذي جمع ما بين الدفتين الآن لم يجعله - أي عثمان - في جملة ما جمع لأسباب دعته إلى ذلك، منها قصوره عن معرفة بعضه، ومنه ما شك فيه، ومنه ما عمد بنفسه ومنه ما تعمد إخراجه منه، وقد جمع أمير المؤمنين القرآن من أوله إلى آخره وألّفه بحسب ما وجب من تأليفه

ويقول الكاشاني في تفسيره وبعد إن أورد الكثير من الروايات الدالة على التحريف: المستفاد من جميع هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت إن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل منه ما هو خلاف ما أنزل ومنه ما هو مغير محرف وأنه قد حذف عنه أشياء كثيرة منها اسم علي في كثير من المواضـع ومنها غير ذلك وأنه ليس أيضا على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم

وقال في موضع آخر: كما أن الدواعي كانت متوفرة على نقل القرآن وحراسته من المؤمنين كذلك كانت متوفرة على تغييره من المنافقين المبدلين للوصية المغيرين للخلافة لتضمنه ما يضاد رأيهم وهواهم والتغير فيه إن وقع فإنما وقع قبل انتشاره في البلدان واستقراره على ما هو عليه الآن

وخلص إلى القول بأنه على هذا التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن إذ على هذا يحتمل أن كل آية منه يكون محرفا ومغيرا ويكون على خلاف ما انزل الله، فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلا فتنتفي فائدته وفائدة الأمر بإتباعه والوصية بالتمسك به إلى غير ذلك

ويقول المجلسي في معرض شرحه للكافي، في رواية هشام بن سالم عن الصادق: إن القرآن الذي جاء به جبرئيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبعة عشر ألف آية: الخبر صحيح، ولا يخفى أن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره وعندي أن الأخبار فـي هـذا البـاب متواترة معنى، وطـرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأسا بل ظني إن الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن الأخبار في الإمامة فكيف يثبتونها بالخبر

وقال: إن عثمان حذف من هذا القرآن ثلاثة أشياء: مناقب أمير المؤمنين علي وأهل بيته، وذم قريش والخلفاء الثلاثة، مثل آية يا ليتني لم اتخذ أبابكر خليلا

كذلك أورد في تذكرته، تمام سورة الولاية التي يدعي كشأن أضرابه، أن عثمان رضي الله عنه قد حذفها من القرآن

ويقول المازندراني: وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى كما ظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها

ويقول نعمة الله الجزائري في أنواره: أنه قد استفاض في الأخبار أن القرآن كما أنزل لم يؤلفه إلا أمير المؤمنين بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فبقي بعد موته ستة أشهر مشتغلا بجمعه، فلما جمعه كما أنزل أتى به إلى المتخلفين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزل، فقال عمر بن الخطاب: لا حاجة بنا إليك ولا إلى قرآنك، عندنا قرآن كتبه عثمان، فقال لهم علي: لن تروه بعد هذا اليوم ولا يراه أحد حتى يظهر ولدي المهدي، وفي ذلك القرآن زيادات كثيرة وهو خال من التحريف

وقال في موضع آخر: ولا تعجب من كثرة الأخبار الموضوعة فإنهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غيروا وبدلوا في الدين ما هو أعظم من هذا كتغيرهم القرآن وتحريف كلماته وحذف ما فيه من مدائح آل الرسول والأئمة الطاهرين وفضائح المنافقين وإظهار مساويهم .

ويقول: وأخبارنا متواترة بوقوع التحريف والسقط منه بحيث لا يسعنا إنكاره، والعجب العجيب من الصدوق وأمين الإسلام الطبرسي، والمرتضى في بعض كتبه كيف أنكروه وزعموا أن ما أنزله الله تعالى هو هذا المكتوب مع أن فيه رد متواتر الأخبار

ونقل عنه الطبرسي قوله: إن الأخبار الدالة على التحريف تزيد على ألفى حديث

ويقول العاملي: اعلم أن الحق الذي لا محيص عنه بحسب الأخبار المتواترة الآتية وغيرها أن القرآن الذي في أيدينا قد وقع فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء من التغيرات واسقط الذين جمعوه بعده كثيرا من الكلمات والآيات وان القرآن المحفوظ عما ذكر الموافق لما أنزله تعالى، ما جمعه علي وحفظه إلى أن وصل إلى ابنه الحسن، وهكذا إلى أن انتهى إلى القائم، وهو اليوم عنده صلوات الله عليه

وفي موضع آخر قال بعد أن أسهب في إثبات هذه المسألة، وأورد أسماء من قال به ممن سبقوه وفند أقوال من ظُن أنهم منكروه، قال: وعندي من وضوح صحة هذا القول بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع وأنه من أكبر مفاسد غصب الخلافة، فتدبر

ويقول البحراني في معرض إنكاره لمسألة القراءات السبعة: ومما يدفع ما ادعوه - أي تواترها - أيضا استفاضة الأخبار المتكاثرة بوقوع النقص في القرآن والحذف منه كما هو مذهب جملة من مشايخنا المتقدمين والمتأخرين

وفي موضع آخر في تعليقه على قراءة آية الوضوء، وأرجلَكم إلى الكعبين، على النصب، قال: وليس بالبعيد أن هذه القراءة كغيرها من المحدثات في القرآن العزيز، لثبوت التغيير والتبديل فيه عندنا زيادة ونقصانا، وإن كان بعض أصحابنا ادعى الإجماع على نفي الأول، إلا أن في الأخبار ما يرده، كما أنهم تصرفوا في قوله تعالى في آية الغار لدفع العار عن شيخ الفجار ، حيث إن الوارد في أخبارنا أنها نزلت، فأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها، فحذفوا لفظ رسوله وجعلوا محله الضمير، ويقرب بالبال، كما ذكر أيضا بعض علمائنا الابدال، أن توسيط آية إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، في خطاب الأزواج من ذلك القبيل

أقول: يقصد بقوله: كما ذكر بعض علمائنا الأبدال، المجلسي صاحب البحار، حيث قال: فلعل آية التطهير أيضا وضعوها في موضع زعموا أنها تناسبه، أو أدخلوها في سياق مخاطبة الزوجات لبعض مصالحهم الدنيوية، ولو سلم عدم التغيير في الترتيب فنقول: سيأتي أخبار مستفيضة بأن سقط من القرآن آيات كثيرة فلعله سقط مما قبل الآية وما بعدها آيات

والطهراني في كتابه محجة العلماء، تناول مسألة التحريف بإسهاب وتوسع، إذ نقل إجماع الشيعة على القول بهذه المسألة، وذكر أقوالهم، وفند على حد زعمه أقوال أهل السنة في كون القرآن الموجود بين الدفتين هو القرآن بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما زيف أقوال أضرابه المنكرين للتحريف وطعن فيهم، وخلص إلى القول بإجماع الشيعة على هذه المسألة، بل وكونه من ضروريات مذهبهم

أما النوري الطبرسي فقد صنف كتابا مستقلا في المسألة، قال في مقدمته: هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان وسميته ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الارباب ) 0 وكتابه هذا زهاء أربعمائة صفحة، أورد فيه كل ما وقف عليه من أخبار وأقوال ونصوص بلغت المئات، كلها في إثبات مسألة التحريف، وعند طبعه عام 1298 للهجرة، ثارت حوله ضجة عند القوم لافتضاح معتقدهم في هذه المسألة، لم يقف المصنف أمامها مكتوف اليدين بل صنف رسالة في دفع الشبهات التي أثيرت حوله

ويقول السيد عدنان: إن القول بالتحريف والتغيير من المسلمات عند الفرقة المحقة وكونه من ضروريات مذهبهم، وبه تضافرت أخبارهم

وخلص إلى القول بعد أن أورد الروايات الدالـة علـى التحريـف وتفنيـد أقـوال المنكرين، إلى أن الأخبار من طريق أهل البيت كثيرة إن لم تكن متواترة على أن القرآن الذي بأيدينا ليس هو القرآن بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله ومنه ما هو محرف ومغير وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي في كثير من المواضع ومنها لفظة آل محمد ومنها أسماء المنافقين ومنها غير ذلك وأنه ليس على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في تفسير علي بن إبراهيم

وكما ذكرنا فإن هذه المسألة محل إجماع عند القوم كما رأيت من بعض النقول السابقة، وقد أوردنا هنا بعضا من أقوالهم في المسألة وبإيجاز لسببين متعلقين بموضوع كتابنا: الأول الكلام في أسباب التقية حيث ذكرنا أن الذين وضعوا هذه العقيدة إنما أرادوا أن يبعدوا الشيعة عن سائر المسلمين فكان لا بد لهم من الطعن في المصدر الأول في مصادر التشريع لدي المسلمين لتعطيل العمل بأحكامه، والسبب الآخر المتعلق بموضوع الباب هو قطع الطريق على أي صوت يصدر من علماء القوم ينادي برفع عزلة هذه الطائفة عن المسلمين بنبذ هذه العقائد التي ما أنزل الله بها من سلطان

ردهم على من أنكر التحريف من علمائهم وبيانهم أن ذلك كان منهم تقيه

لم يشذ عن القول بالتحريف على الراجح سوى أربعة، ولا عبرة بمتأخري القوم فهم لن يغيروا من الأمر شيئا، وهؤلاء الأربعة هم: الشريف المرتضى، الشيخ الصدوق، شيخ الطائفة الطوسي، والطبرسي0 وكل من أراد من القوم نفي هذه الفرية عنهم يحيلنا إلى أقوالهم، وهؤلاء الأربعة إنما أرادوا بنفيهم لعقيدة التحريف القول بأن الشيعة كسائر المسلمين يعتقدون بهذا القرآن، لعلمهم بأن الاعتقاد بكونه محرفا يخرج بقائله عن الإسلام والمسلمين0 وبغض النظر عن حقيقة أقوال هؤلاء والاضطراب في ذلك حيث إن بعضهم أورد في مصنفاته ما يدل على القول بالتحريف، وكذلك كون بعضهم شيخاً للبعض ومن تلاميذ آخرين، كالشيخ المفيد الذي مر قوله وإقراره بالتحريف، فهو من تلاميذ الشيخ الصدوق، ومن شيوخ المرتضى علم الهدى، وشيخ الطائفة الطوسي وهؤلاء كما عرفت أنكروا التحريف، فإن هذا يضع أمامنا علامة استفهام كبيرة لحقيقة الأمر، وما إذا كانت أقوالهم هذه صدرت على وجه التقية أم خلافه، وهو موضوع الباب، وإليك بيان ذلك:

يقول الجزائري: والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة، منها سد باب الطعن عليها بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها، وسيأتي الجواب عن هذا، كيف وهؤلاء الأعلام رووا في مؤلفاتهم أخبارا كثيرة تشتمل على وقوع تلك الأمور في القرآن وأن الآية هكذا نزلت ثم غيرت إلى هذا

ويقول النوري: لم يعرف الخلاف صريحا إلا من هؤلاء المشايخ الأربعة وما حكي عنهم المفيد، ثم شاع هذا المذهب بين الأصوليين من أصحابنا واشتهر بينهم حتى قال المحقق الكاظمي في شرح الوافية: أنه حكى عليه الإجماع وبعد ملاحظة ما ذكرناه تعرف أن دعواه جرأة عظيمة وكيف يمكن دعوى الإجماع بل الشهرة المطلقة علي مسألة خالفها جمهور القدماء وجل المحدثين وأساطين المتأخرين بل رأينا كثيرا من كتب الأصول خالية عن ذكر هذه المسألة ولعل المتتبع يجد صدق ما قلناه ونقلناه0

وقال في موضع آخر في معرض رده على المرتضي: كيف وقد عد هو في الشافي من مطاعن عثمان: أن من عظيم ما أقدم عليه جمع الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف وإبطاله ما لاشك أنه من القرآن، ولولا جواز كون بعض ما أبطله أو جميعه من القرآن لما كان ذلك طعنا

وفي ردة علي الطوسي قال: لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان – وهو الكتاب الذي ادعى فيه الطوسي بأن القرآن غير محرف – أن طريقته فيه على نهاية المداراة والمماشاة مع المخالفين، فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقل كلام الحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج والجبائي والزجاج وابن زيد وأمثالهم ولم ينقل عن أحد من مفسري الإمامية ولم يذكر خبرا عن أحد من الأئمة عليهم السلام إلا قليلا في بعض المواضع لعله وافقه في نقله المخالفون بل عد الأولين في الطبقة الأولى من المفسرين الذي حمدت طرائقهم ومدحت مذاهبهم وهو بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه المماشاة فمن المحتمل أن يكون هذا القول منه نحو ذلك ومما يؤكد كون وضع هذا الكتاب على التقية ما ذكره السيد الجليل علي بن طاووس في سعد السعود وهذا لفظه: نحن نذكر ما حكاه جدي أبي جعفر بن الحسن الطوسي في كتاب التبيان وحملته التقية على الاقتصار عليه من تفصيل المكي من المدني والخلاف في أوقاته

ويقول الطهراني: وكيف كان فالمتبع هو البرهان لا الأساطين والأعيان، ولا يعرف لهؤلاء موافق إلي ذلك الزمان وإنما شاع بعد عصر الطبرسي مع أن إسناده إلي الشيخ والطبرسي في غاية الإشكال فدعوى الإجماع على عدم التحريف عجيبة حيث لا يعرف سوى الصدوق والمرتضى إلي عصر متأخر المتأخرين وقد عرفت الذاهبين إلي الحق

نماذج تطبيقية للتقية من بعض متأخري القوم في إنكار التحريف

وهكذا حمل أقوالهم على التقية سائر من رد عليهم ممن اعتقد بالتحريف، وأهل مكة أدرى بشعابها، ولا زال أذناب هؤلاء في أيامنا هذه ينتهجون مناهجهم وهم يرون في التقية فسحة وملاذاً آمنا، فهذا شرف الدين الموسوي يقول: نسب إلى الشيعة القول بالتحريف بإسقاط كلمات وآيات فأقول نعوذ بالله من هذا القول ونبرأ إلى الله من هذا الجهل وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا، فإن القرآن الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته

وهذا آخر وهو الأميني يقول: ليت هذا المجترئ – أي ابن حزم - أشار إلى مصدر فريته من كتاب للشيعة موثوق به أو حكاية عن عالم من علمائهم تقيم له الجامعة وزنا، أو طالب من رواد علومهم ولو لم يعرفه أكثرهم، بل نتنازل معه إلى قول جاهل من جهالهم أو قروي من بسطائهم أو ثرثار، كمثل هذا الرجل يرمي القول على عواهنه0 لكن القارئ إذا فحص ونقب لا يجد في طليعة الإمامية إلا نفاة هذه الفرية كالشيخ الصدوق في عقايده والشيخ المفيد وعلم الهدى وشيخ الطائفة الطوسي في التبيان وأمين الإسلام في مجمع البيان 00وهذه فرق الشيعة في مقدمتهم الإمامية مجمعة على أن ما بين الدفتين هو ذلك الكتاب لا ريب فيه

فأنظر إلى مساوئ التقية وكيف تصل بصاحبها إلى هذا الدرك من فساد العقيدة وخبث السريرة واستحلال التلبيس على عباد الله، فهل كان يرى أن عقائد أضرابه بمنأى عن غيره حتى يجد لنفسه هذه الحرية في الإنكار والتقية، فهل أن القمي والصفار، والكليني والمفيد – الذي نسبه إلي المنكرين للتحريف –، والعياشي، وفرات، والطبرسي صاحب الاحتجاج، والكاشاني، والمجلسي، والجزائري، والبحراني، والعاملي، والطهراني، النوري الطبرسي، والسيد عدنان وغيرهم مما ذكرناهم أو لم نذكرهم، فهل إن هؤلاء من أساطين القوم الذي أسسوا بنيان التشيع وقعدوا قواعده وأصلوا أصوله، أم إنهم من جهالهم أو قروييهم أو ثرثاريهم0 والطريف أن الأميني في الكتاب نفسه، وهو في فورة حماسة في حشد كل ما يراه طعن في الخلفاء من روايات موضوعه أو لا تخدم غرضه أقر من حيث يشعر أو لا يشعر بالتحريف حيث قال: إن بيعة الصديق رضي الله عنه قد عم شؤمها الإسلام وزرعت في قلوب أهلها الآثام وعنفت سلمانها وطردت مقدادها ونفت جندبها وفتقت بطن عمارها وحرفت القرآن وبدلت الأحكام وغيرت المقام

تماما كما فعل آخر وهو الخوئي في بيانه حيث نفى التحريف أولاً ثم قال من حيث أراد أو لم يرد: إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر . ناهيك عن تصحيحه لجميع مرويات تفسير القمي رغم ما فيها من طامات على رأسها روايات التحريف

وهكذا نرى أول تطبيق عملي للتقية من جهة أنها وضعت لعزل الشيعة عن سائر المسلمين وكيف أنهم حجّروا واسعا في أمرا كان فيه خلاصهم من قبل هؤلاء الذين أرادوا إخراج القوم من مستنقع القول بالتحريف الذي يخرجهم عن دائرة الإسلام، هذا إن صحت نياتهم، ولا أظن، ليؤكدوا للعالم أنهم لا يؤمنون بمصدر التشريع الأول لمسلمين وإن على هذا إجماع الطائفة، وأنها من ضروريات مذهب التشيع، ومن شذ عن ذلك إنما كان منه تقية، لأن سيوف الأمويين والعباسيين ومن بعدهم العثمانيين كانت على رقابهم مما اضطرتهم إلى الأخذ بالتقية، لإخفاء معتقدهم الذي هو موافق لأصول الشرع الإسلامي وعقائده كما زعم بعضهم، نعم هكذا يريد القوم أن يصوروا لنا أسباب لجوئهم للتقية0

طعن الشيعة في مصدر التشريع الثاني للمسلمين وبيان عقيدتهم في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

وإذا علمت بأن القوم قد تبنوا هذا الاعتقاد في القرآن الكريم، وصرفوا جميع الأصوات التي شذت عن معتقدهم فيه بحجة التقية فإن الأمر كان أيسر عليهم فيما عدا ذلك، فإكمالا لمخططهم لإبعاد الشيعة عن سائر المسلمين، عمدوا إلى السنة المطهرة، المصدر الثاني من مصادر التشريع عند المسلمين لإسقاطه، ولأنه لم يكن باليسير عليهم أن يردوا كل هذه الألوف المؤلفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو صرفها عن ظاهرها، كان أن ذهبوا إلى القول بارتداد جل الصحابة رضي الله عنهم ليضمنوا بهذا رد جميع مروياتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحجة عدم جواز أخذ الأحاديث عن غير المؤمنين العدول، حتى قال كاشف غطائهم بأن أحاديث مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب وعمرو بن العاص ونظائرهم ليس لها عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة

تبدأ هذه الفرية بالقول بأن الصحابة رضوان الله عليهم قد ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدين، فقد رووا عن الباقر أنه قال: إن الناس عادوا بعد ما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل جاهلية

وقال: الناس صاروا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة من اتبع هارون عليه السلام ومن اتبع العجل

ثم جاءت روايات أخرى أكثر دقة حيث استثنت البعض من إطلاقات وعموميات هذه النصوص، فرووا عن الصادق أنه قال: الولاية للمؤمنين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا بعد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم واجبة، مثل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسر وجابر بن عبدالله الأنصاري وحذيفة بن اليمان وأبي الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وأبي أيوب الأنصاري وعبدالله بن الصامت وعبادة بن الصامت وخزيمة بن ثابـت ذي الشهـادتين وأبي سعيد الخدري ومن نحا نحوهم وفعل مثل فعلهم 0

ثم جاءت روايات استثنت الكثير ممن ورد ذكرهم في الروايات السابقة، حيث عز على واضعيها أن يجدوا هذا العدد من الصحابة رضي الله عنهم لا زال على الإيمان فقلصوا العدد إلى أربعة وهم المقداد بن الأسود، وأبوذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم 0

ثم أسقط عمار بن ياسر رضي الله عنه ، حيث رووا عن الباقر أنه قال: كان الناس أهل ردة - وفي رواية: ارتد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة، فقال الراوي: ومن الثلاثة؟ قال: المقداد وأبوذر وسلمان الفارسي 0

وعن المفضل قال: عرضت علي أبي عبدالله أصحاب الردة، فكلما سميت إنسانا قال: أعزب، حتى قلت: حذيفة؟ قال: أعزب، قلت: ابن مسعود؟ قال: أعزب، ثم قال: إن كنت تريد الذين لم يدخلهم شئ فعليك بهؤلاء الثلاثة: أبوذر وسلمان والمقداد 0

وعن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر: جعلت فداك ما اقلنا، لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها، فقال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك؟ المهاجرين والأنصار ذهبوا، إلا – وأشار بيده ثلاثة، فقلت: جعلت فداك ما حال عمار؟ قال: رحم الله عمارا أبا اليقظان بايع وقتل شهيدا، فقلت في نفسي: ما شئ افضل من الشهادة؟ فنظر إلي فقال: لعلك ترى أنه مثل الثلاثة، هيهات، هيهات 0

ثم أسقط الجميع سوى المقداد، فرووا عن الباقر أنه قال: إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شئ فالمقداد، وفي رواية: ما بقى أحد إلا وقد جال جولة إلا المقداد بن الأسود فإن قلبه كان مثل زبر الحديد، وفي رواية: فأما الذي لم يتغير منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فارق الدنيا طرفة عين فالمقداد بن الأسود

والطريف أن المقداد رضي الله عنه أيضا لم يسلم، أو إن شئت فقل لم يشأ القوم أن يروا أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شيء من الإيمان، فقد ذكروا أنه لو علم أحدهم بعلم الآخر أو صبره لقتله، فعن جعفر عن أبيه قال: ذكر التقية يوما عند علي بن الحسين عليه السلام فقال والله لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله

وعن الصادق قال: علم سلمان علما لو علمه أبوذر لكفر

وعنه أيضا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسلمان: يا سلمان لو عرض علمك على مقداد لكفر، يا مقداد لو عرض صبرك – وفي رواية علمك – على سلمان لكفر

ورووا أن سلمان دعا أبا ذر رضي الله عنهم إلى منزله فقدم إليه رغيفين فأخذ أبوذر الرغيفين يقلبهما، فقال له سلمان: يا باذر لأي شيء تقلب هذين الرغيفين؟ قال: خفت ألاّ يكونا نضيجين، فغضب سلمان من ذلك غضبا شديدا ثم قال: ما أجرأك حيث تقلب هذين الرغيفين؟ فو الله لقد عمل في هذا الخبز الماء الذي تحت العرش وعملت فيه الملائكة حتى ألقوه إلى الريح وعملت فيه الريح حتى ألقته إلى السحاب وعمل فيه السحاب حتى أمطره إلى الأرض وعمل فيه الرعد والبرق والملائكة حتى وضعوه مواضعه وعملت فيه الأرض والخشب والحديد والبهائم والنار والحطب والملح وما لا أحصيه أكثر فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر؟ فقال أبوذر: إلى الله أتوب وأستغفر مما أحدثت وإليك أعتذر مما كرهت قال: ودعا سلمان أباذر رضي الله عنهم ذات يوم إلى ضيافة فقدم إليه جرابه كسرا يابسة وبلها من ركوته، فقال أبوذر: ما أطيب هذا الخبر لو كان معه ملح فقام سلمان وخرج فرهن ركوته بملح وحمله إليه فجعل أبوذر يأكل ذلك الخبز ويذر عليه ذلك الملح ويقول: الحمد لله الذي رزقنا هذه القناعة، فقال سلمان: لو كانت قناعة لم تكن ركوتي مرهونة ، وقد نقلنا الرواية بأكملها لما فيها من فوائد لا تخفى على المتدبر0

نماذج تطبيقية للتقية في عقيدة الشيعة في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

لهذا فليس للشيعة معتقد في الصحابة وعلى رأسهم الشيخان رضوان الله عليهما سوى هذا القول، وما سواه من المكتوب في مصنفاتهم ما يرددونه من أقوالهم ليس سوى تطبيق عملي للتقية وإليك بعضا منها مع جذورها التاريخية:

روى القوم عن الصادق رحمه الله أنه سئل في مجلس الخليفة عن الشيخين فقال: هما إمامان عادلان قاسطان كانا على الحق فماتا عليه، عليهما رحمة الله يوم القيامة، فلما قام من المجلس تبعه بعض أصحابه فقال: يا ابن رسول الله قد مدحت أبابكر وعمر هذا اليوم، فقال: أنت لا تفهم معنى ما قلت، فقال بينه لي؟ فقال: أما قولي هما إمامان، فهو إشارة إلى قوله تعالى: ] وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار[ - [القصص/41]، وأما قـولي: عـادلان، فـهو إشارة إلى قوله تعالى: ] الذين كفروا بربهم يعدلون [ - [ الأنعام/ 1]، وأما قولي قاسطان، فهو المراد من قولهعزوجل :] وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا[ - [الجن/15]، وأما قولي: كانا على الحق، فهو من المكاونة أو الكون ومعناه أنهما كاونا على حق غيرهم لأن الخلافة حق علي بن أبي طالب وكذا ماتا عليه فإنهما لم يتوبا بل استمرا على أفعالهم القبيحة إلي أن ماتا، وقولي: عليهما رحمة الله، المراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله تعالى: ] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ - [الأنبياء/107]، فهو القاضي والحاكم والشاهد على ما فعلوه يوم القيامة، فقال: فرجت عني فرج الله عنك

و عن الحسن العسكري أنه قال: قال بعض المخالفين بحضرة الصادق لرجل من الشيعة: ما تقول في العشرة من الصحابة؟ قال: أقول فيهم الخير الجميل، الذي يحط الله به سيئاتي ويرفع لي درجاتي، قال السائل: الحمد لله على ما أنقذني من بغضك، كنت أظنك رافضيا تبغض الصحابة فقال الرجل: ألا من أبغض واحد من الصحابة فعليه لعنة الله، قال: لعلك تتأوّل، ما تقول فيمن أبغض العشرة؟ فقال: من أبغض العشرة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فوثب فقبل رأسه وقال: اجعلني في حل مما قذفتك به من الرفض قبل اليوم، قال: أنت في حل يا أخي، ثم انصرف السائل، فقال الصادق: جودت لله درك لقد أعجبت الملائكة من حسن توريتك، وتلفظك بما خلصك ولم تثلم دينك، زاد الله في مخالفينا غما إلى غم وحجب عنهم مراد منتحلي مودتنا في بقيتهم، فقال بعض أصحاب الصادق: يا ابن رسول الله ما عقلنا من كلام هذا إلا موافقته لهذا المتعنت الناصب، فقال الصادق: لئن كنتم لم تفهموا ما عني، فقد فهمناه نحن، وقد شكر الله له، وإن ولينا الموالي لأوليائنا المعادي لأعدائنا إذا ابتلاه الله بمن يمتحنه من مخالفيه، وفقه لجواب يسلم معه دينه وعرضه ويعظم الله بالتقية ثوابه، إن صاحبكم هذا قال: من عاب واحدا منهم فعليه لعنة الله أي من عاب واحدا منهم هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقال في الثانية: من عابهم وشتمهم فعليه لعنة الله، وقد صدق لأن من عابهم فقد عاب عليا رضي الله عنه لأنه أحدهم فإذا لم يعب عليا ولم يذمه فلم يعبهم، وإنما عاب بعضهم

وعن الرضا أن رجلا قال له: يا ابن رسول الله لقد رأيت اليوم شيئا عجبت منه، رجل كان معنا يظهر لنا أنه من المواليين لآل محمد المتبرئين من أعدائكم، ورأيته اليوم وعليه ثياب قد خلعت عليه وهو ذا يطاف به ببغداد وينادي المنادون بين يديه: معاشر الناس اسمعوا توبة هذا الرافضي ثم يقولون له قل: فقال: خير الناس بعد رسول الله صلي الله عليه واله وسلم أبابكر، فإذا فعل ذلك ضجوا وقالوا: قد تاب وفضل أبابكر على علي بن أبي طالب، فقال الرضا: إذا خلوت فأعد علي هذا الحديث، فلما خلا أعاد عليه، فقال: إنما لم أفسر لك معني كلام هذا الرجل بحضرة هذا الخلق المنكوس، كراهة أن ينقل إليهم فيعرفوه ويؤذوه، لم يقل الرجل: خير الناس بعد رسول الله صلي الله عليه واله وسلم أبوبكر فيكون قد فضل أبابكر على علي بن طالب، ولكن قال: خير الناس بعد رسول الله أبابكر، فجعله نداء لأبي بكر ليرضى من يمشي بين يديه من بعض هؤلاء ليتوارى من شرورهم 0 إن الله تعالى جعل هذه التورية مما رحم به شيعتنا

وقال رجل لمحمد بن علي: يا ابن رسول الله مررت اليوم بالكرخ فقالوا: هذا نديم محمد بن علي إمام الرافضة فاسألوه من خير الناس بعد رسول الله؟ فإن قال علي، فاقتلوه، وإن قال: أبوبكر فدعوه، فانثال عليَّ منهم خلق عظيم وقالوا لي: من خير الناس بعد رسول الله؟ فقلت مجيبا: أخير الناس بعد رسول الله أبوبكر وعمر وعثمان،وسكت، ولم اذكر عليا، فقال بعضهم: قد زاد علينا نحن نقول ههنا: وعلي، فقلت: في هذا نظر لا أقول هذا، فقالوا بينهم: إن هذا اشد تعصبا للسنة منا قد غلطنا عليه، ونجوت بهذا منهم، فهل علي يا ابن رسول الله في هذا حرج؟ وإنما أردت أخير الناس أي أنه خير استفهاما لا إخبارا 0 فقال محمد بن علي: قد شكر الله لك بجوابك هذا لهم، وكتب لك أجره وأثبته لك في الكتاب الحكيم، وأوجب لك بكل حرف من حروف ألفاظك بجوابك هذا لهم ما تعجز عنه أماني المتمنين ولا يبلغه آمال الآملين

وعن أبي يعقوب وعلي قالا: حضرنا عند الحسن بن علي العسكري فقال له بعض أصحابه: جاءني رجل فقال من إخواننا الشيعة قد امتحن بجهالة العامة يمتحنونه في الإمامة، ويحلفونه فقال لي: كيف أصنع معهم، حتى أتخلص؟ فقلت له: كيف يقولون؟ قال: يقولون لي: أتقول: إن فلانا هو الإمام بعد رسول الله؟ فلا بد لي أن أقول نعم، وإلا أثخنوني ضربا، فإذا قلت: نعم، قالوا: قل والله، فقلت له: قل: نعم وارد به نعما من الإبل والبقر والغنم، فإذا قالوا: قل والله، فقل: والله وارد به ولي في أمر كذا، فإنهم لا يميزون وقد سلمت فقال لي: فإن حققوا علي، وقالوا: قل والله وبين الهاء؟ فقلت: قل: والله فرفع الهاء فأنه لا يكون يمينا إذا لم يخفض الهاء؟ فذهب، ثم رجع إلي فقال: عرضوا علي وحلفوني وقلت كما لقنتني، فقال الحسن رضي الله عنه : أنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الدال على الخير كفاعله، وقد كتب الله لصاحبك بتقيته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا وموالينا ومحبينا حسنة، وبعدد من ترك منهم التقية حسنة أدناها حسنة لو قوبل بها ذنوب مائة عام لغفرت، ولك لإرشادك إياه مثل ما له 0

والروايات في الباب تطول، وكأنهم بها يؤكدون أن كفر الصحابة رضوان الله عليهم أمر مسلم به لا يجوز كتمانه إلا تقية بل إن خلاف هذا القول يعد نفاقا0 وكفر الصحابة وعلى رأسهم الشيخان رضي الله عنهم أجمعين من المسلمات عند الذين وضعوا مذهب التشيع لأهل البيت، ولعل في سردنا لروايات أخري زيادة بيان:

روى القوم عن الباقر أنه سئل عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم فقال: ما أهريق محجمة من دم ولا أخذ مال من غير حله ولا قلب حجر على حجر إلا ذاك في أعناقهما

وقال: ضربوكم على عثمان ثمانين سنة وهم يعلمون أنه كان ظالما فكيف إذا ذكرتم صنميهم

وقال: ما مات منا ميت إلا ساخطا عليهما وما منا اليوم إلا ساخط عليهما يوصِي بذلك الكبير منا الصغير إنهما ظلمانا حقنا ومنعانا فيئنا00 والله ما أسست من بلية ولا قضية تجري علينا أهل البيت إلا هما أسسا أولها فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين

وقال: إن الشيخين فارقا الدنيا ولم يتوبا ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين رضي الله عنه فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين

وعن الصادق أنه قال في قوله تعالى: ] ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقداما ليكونا من الأسفلين[ - [فصلت/29]، قال: هما – أي أبوبكر وعمر – ثم قال: وكان فلان – أي عمر – شيطانا

وقال: إن اشد الناس عذابا يوم القيامة لسبعة نفر00 اثنان من هذه الأمة

وقال: إن لله خلف مغربكم هذه تسعة وتسعون مغربا أرضا بيضاء مملوءة خلقا يستضيئون بنورها لم يعصوا الله طرفة عين لا يدرون أخلق الله آدم أم لم يخلقه، يبرؤون من فلان وفلان وفلان

وعن زين العابدين أنه سئل عن أبي بكر وعمر فقال: عليهما لعائن الله بلعناته كلها، كانا والله كافرين مشركين بالله العظيم

وعنه أنه سئل عنهما فقال: كافران كافر من أحبهما

وعن الباقر أنه رمى بمنى الجمرات ثم رمى بخمس بعد ذلك ثلاثة، في ناحية وثنتين في ناحية، فسئل عن ذلك؟ فقال: أنه إذا كان كل موسم أخرجا الفاسقين – أبابكر وعمر – غضين طريين فصلبا ههنا لا يراهما إلا إمام عدل، فرميت الأول ثنتين والآخر بثلاث لأن الآخر أخبث من الأول

وقال: إن من وراء شمسكم هذه أربعين عين شمس ما بين عين إلى عين شمس أربعون عاما فيها خلق كثير ما يعلمون أن الله خلق آدم أم لم يخلقه وإن من وراء قمركم هذا أربعين قرصا بين القرص إلى القرص أربعون عاما فيها خلق كثير لا يعلمون أن الله عزوجل خلق آدم أو لم يخلقه، قد ألهموا كما ألهمت النحلة لعنة الأول والثاني في كل الأوقات وقد وكل بهم ملائكة متى لم يلعنوا عذبوا

حقيقة إنكار بعض علماء الشيعة لسب وتكفير الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

والروايات في الباب كثيرة جدا وكنت قد جمعت منها المئات، وما أوردناه شذر يسير مما يتعلق بالشيخين لتقف على القول من خلالها على عقيدتهم فيما سواهم من الصحابة رضوان الله عليهم، رغم هذا ينكر الكثير من المعاصرين – تقيةً بطبيعة الحال - وجود أمثال هذه الروايات عند الشيعة، بل وينكرون مشروعية السب، فهذا الخنيزي يقول:

فـلا نسب عمرا كلا ولا عثمـان والـذي تـولى أولا *** ومن تـولى سبهم فاسـق حكم به قضى الإمام الصادق

وآخر يقول: إن من نسب إليهم ذلك فهو إما أن يكون خصما سيئ النية وإما لم يطلع على مذهب الشيعة إلا من خلال كتب خصومها ولم يتمكن من الاطلاع على كتب أصحاب المذهب

وثالث يرى أن الشيعة تترضى على عمر وتثني عليه وإنما الملعون في أمثال هذه الروايات هو عمر بن سعد قاتل الحسين رضي الله عنه وليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإن أفراداً بالأمس من سواد الشيعة وبسطائها لا يفرقون بين هذين الاسمين، بل لا يعرفون أن في دنيا التاريخ الإسلامي عمرين تقياً وشقيا

ورابع يقول: إن اتهام الشيعة بسب الصحابة وتكفيرهم أجمع إنما هو إتهام بالباطل ورجم بالغيب وخضوع للعصبية وتسليم لنزعة الطائفية

وقال: إن فكرة اتهام الشيعة بسب الصحابة وتكفيرهم كونتها السياسة الغاشمة وتعاهد تركيزها مرتزقة باعوا ضمائرهم بثمن بخس وتمرغوا على أعتاب الظلمة يتقربون إليهم بذم الشيعة

ثم ختم بهذا التساؤل: أين هذه الأمة التي تكفر جميع الصحابة ويتبرأون منهم؟

وآخر يقول: لا نسوغ لأحد أن يسبهما ولا أن يتحامل على مقامهما، ولا أفتينا لأحد بجواز سبهما فلهما عندنا من المقام ما يقتضي الإجلال والاحترام

وآخر ينكر نيل الشيعة من الصحابة ويستدل بما جاء في الصحيفة السجادية لزين العابدين رحمه الله والذي فيها: اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته والذين هجرتهم العشائر وتعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم اللهم وأوصل إلي التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ] ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان[ - [الحشر/10]، خير جزائك الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم في بصيرتهم ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام لهم يدينون بدينهم ويهتدون بهديهم يتفقون عليهم ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم، وأعقب قائلا: هذه المناجاة جاءت في الصحيفة السجادية التي تعظمها الشيعة وتقدس كل حرف منها، وهي رد مفحم لمن قال: إن الشيعة ينالون من مقام الصحابة

وعلى أي حال كل ما مر وعشرات غيرها إنما هو تطبيق عملي للتقية، يقول المجلسي مثلاً وبعد أن أورد الكثير من روايات المدح في المهاجرين والأنصار ومنها دعاء زين العابدين السابق: وينبغي أن تعلم أن هذه الفضائل إنما هي لمن كان مؤمنا منهم لا للمنافقين كغاصبي الخلافة وأضرابهم وأتباعهم ولمن ثبت منهم على الإيمان واتباع الأئمة الراشدين، لا للناكثين الذين ارتدوا عن الدين

لذا فليس بالمستغرب أن نرى هؤلاء وهم ينكرون الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقيةً كما مر، تراهم يطعنون فيهم في مواضع أخري من كتبهم. فهذا مغنية الذي مر بك قوله نراه يطعن في عمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين ، وكذا فعل الرفاعي ، فضلا عن الكثير من علمائهم المعاصرين كما يروى عن توثيق محسن الحكيم والخوئي والخميني وشريعتمداري وأبي الحسن الأصفهاني والشابرودي وغيرهم لدعاء صنمي قريش والذي فيه نصوص صريحة في لعن أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم واتهامهم بتحريف القرآن

وقول الخراساني في كتاب أهداه إلى دار التقريب من أن تجويز الشيعة للطعن فيهما إنما هو أسوة برسول الله وإقتفاء لأثره

وقول متزعم آخر للوحدة بين الشيعة والسنة في رده على القول بأن أبابكر وعمر رضي الله عنهما من أهل بيعة الرضوان: لو أنه قال: لقد رضي الله عن الذين يبايعونك تحت الشجرة لكان في الآية دلالة على الرضى عن كل من بايع ولكن لما قال: ] لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة[ - [الفتح/18]، فلا دلالة فيها إلا على الرضى عمن محض الإيمان

ويقول آخر: أما براءتنا من الشيخين فذاك من ضرورة ديننا وهي إمارة شرعية على حبنا لإمامنا وموالاتنا لقادتنا عليهم السلام 0

فهذه هي حقيقة موقف القوم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 0 ثم أعلم إن التصريح بالطعن في الشيخين وسائر الصحابة رضي الله عنهم علناً خلاف منهج القوم، يقول يوسف البحراني في موقف أحد أضرابه الذي لا يركب ولا يمضي إلا وفي ركابه من يجاهر بلعن الشيخين ومن على طريقتهما، قال: ترك التقية والمجاهرة بسب الشيخين خلاف ما استفاضت به الأخبار عن الأئمة الأخيار الأبرار عليهم السلام

وعلى أي حال فمقصودنا من ذلك كله بيان كيف أنهم أحكموا الخطة في معتقد التقية، وكيف أن أسبابها الحقيقة هي تمزيق وحدة المسلمين بتعطيل العمل بمصادرهم التشريعية وصرف كل ما يتعارض مع هذا الغرض من أقوال وأفعال، فلا تعلق في الأمر إذن بالكافرين ولا بعمار بن ياسر المطمئن قلبه بالإيمان، ولا بزخرف القول الذي يدعونه ويكررونه من اضطهاد وقع عليهم إبّان حكم الأمويين والعباسين ألجأهم إلى الأخذ بالتقية، واضطرهم إلي كتمان الدين الحق والذي هو بزعمهم، تعطيل العمل بالقرآن والسنة، والقول بعقائد ما أنزل الله بها من سلطان، إذن فالتقية التي ينادي بها هؤلاء الذين وضعوا مذهب التشيع ونسبوه إلى أهل البيت عليهم السلام إنما هي عين الكذب والنفاق ولا علاقة لها بالتقية التي شرعها الله للمضطر، وإليك رواية أخرى لعلها تزيد الأمر وضوحا:

عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي عبدالله عليه السلام وعنده أبوحنيفة فقلت له: جعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة، فقال لي: يا ابن مسلم هاتها فإن العالم بها جالس وأومأ بيده إلى أبي حنيفة، قال: قلت: رأيت كأني دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت علي فكسرت جوزا كثيرا ونثرته علي، فتعجبت من هذه الرؤيا فقال أبوحنيفة: أنت رجل تخاصم وتجادل لئاما في مواريث أهلك فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن شاء الله، فقال: أبوعبدالله عليه السلام : أصبت والله يا أباحنيفة، قال: ثم خرج أبوحنيفة من عنده، فقلت: جعلت فداك إني كرهت تعبير هذا الناصب، فقال: يا ابن مسلم لا يسؤك الله، فما يواطيء تعبيرهم تعبيرنا ولا تعبيرنا تعبيرهم وليس التعبير ما عبره، قال: فقلت له: جعلت فداك فقولك: أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ؟ قال: نعم حلفت عليه إنه أصاب الخطأ

فأي تقية هذه التي ينادي بها القوم، فهل إن أباحنيفة رحمه الله كان من خلفاء بني أمية أو العباس أو كان من رجالاتهم؟ وهل كان ذا سطوة أو بطش أو سلطان يتقى منه؟ كلا فالرجل أبدا لم يكن من رجال السلاطين حتى يتقى، ولم يكن ذا قوة فيخشى، فهواه لآل البيت من أوضح سمات الرجل وقد ذكرنا لك ذلك من قبل، فهل يريد هؤلاء أن يظهروا أئمة أهل البيت عليهم السلام بهذه الصورة، ينافقون الرجل في حضرته ويقسمون بأنه أصاب الحق ثم يستهزئون به عند خروجه، والغريب أننا ونحن نري الإمام أباحنيفة رحمه الله وهو يقارع الظلم الأموي ويناصر العلويين، نرى القوم يروون عن أبي عبدالله الصادق رحمه الله أنه قال: دخلت على أبي العباس في يوم شك وأنا أعلم أنه من شهر رمضان وهو يتغذى، فقال: يا أباعبدالله ليس هذا من أيامك قلت: لم يا أمير المؤمنين، ما صومي إلا صومك ولا إفطاري إلا إفطارك، قال: أدن، قال: فدنوت وأكلت وأنا أعلم أنه من شهر رمضان

ويروون عن إبنه الكاظم أنه كتب إلى الخيزران يعزيها بموسى ابنها ويهنئها بهارون ابنها ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم للخيزران إلى أم أمير المؤمنين من موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين أما بعد اصلحك الله، وأمتع بك، وأكرمك، وحفظك، وأتم النعمة والعافية في الدنيا والآخرة لك برحمته، ثم إن الأمور أطال الله بقاءك كلها بيد الله عزوجل يمضيها، ويقدرها، بقدرته فيها، والسلطان عليها توكل بحفظ ماضيها، وتمام باقيها، فلا مقدم لما أخر منها، ولا مؤخر لما قدم، استأثر بالبقاء، وخلق خلقه للفناء، أسكنهم دنيا سريعا زوالها، قليلا بقاؤها، وجعل لهم مرجعا إلى دار لا زوال لها ولا فناء، لم يكن أطال الله بقاك أحد من أهلي، وقومك وخاصتك وحرمتك كان أشد لمصيبتك إعظاما، وبها حزنا ولك بالأجر عليها دعاء وبالنعمة التي أحدث الله لأمير المؤمنين أطال الله بقاه دعاء بتمامها، ودوامها، وبقائها، ودفع المكروه فيها مني، والحمد لله لما جعلني الله عليه بمعرفتي بفضلك، والنعمة عليك، وبشكري بلاءك، وعظيم رجائي لك أمتع الله بك، وأحسن جزاك، إن رأيت أطال الله بقاك أن تكتبي إلي بخبرك في خاصة نفسك، وحال جزيل هذه المصيبة، وسلوتك عنها فعلت، فإني بذلك مهتم وإلي ما جاءني من خبرك وحالك فيه متطلع، أتم الله لك افضل ما عودك من نعمته، واصطنع عندك من كرامته، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته

نماذج تطبيقية للتقية في بعض أبواب الفقه